«أيلول» والوجع الفلسطيني المقاوم

TT

ايلول الاسود 1970، ايلول مذبحة صبرا وشاتيلا 1982، ايلول انتفاضة الحرية والاستقلال 2000، ايلول 2001 تنامي ارهاب الدولة الأمريكي المنظم. وتبقى للفلسطينيين مع ايلول اوجاع كثيرة، قدرهم ان يتحملوا لوحدهم العبء الاكبر من المقاومة.

لقد اهدتنا السماء ما لم نكن نتوقع، هذا ما كان يقوله صقور المحافظين الجدد لأنفسهم وراء الأبواب المغلقة، بعد ان ذرفوا امام عدسات الكاميرات دموع التماسيح على أرواح الأبرياء الذين سقطوا في مأساة برجي مركز التجارة العالمي، متناسين ان ما جرى يشكل احدى النتائج المأساوية لسياساتهم الاستعمارية الجديدة للعولمة، التي استنبتت الارهاب ومكنته حتى وصل الى عقر دارها. ووجدت ادارة المحافظين الجدد في واشنطن الفرصة سانحة امامها بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001، للمضي بعيدا بسياسة وضع نفسها فوق القانون والشرعية الدولية، وسعيها لممارسة هيمنة كلية على العالم، تحت وهم انها باتت تمثل القوة النهائية، التي تقود «الرأسمالية المنتصرة»، النظام النهائي في التاريخ الإنساني.

سياسات العولمة الأمريكية المغلفة بشعارات الديمقراطية ينطبق عليها وصف كارل ماركس بكونها مجرد شعارات تبشر بـ«حقوق صورية»، لقد افرغوا مفهوم الحرية من قيمته الانسانية المطلقة، وحولوه الى مجرد دعاية رخيصة ومضللة للهيمنة على العالم، واذا لم يكن الامر كذلك فكيف يمكن تحت ستار الدعوة للديمقراطية الحديث عن «صراع الحضارات»، كما تتحدث نظرية صموئيل. ب ـ هنغنتون، والتي يمكن اختصار مقولتها بأن «المستقبل لن يتحدد من خلال اختلاف النظم الاجتماعية، كما كانت الحال إبان الحرب الباردة، بل سيتحدد من خلال ما يدور بين الحضارات من صراعات دينية وعرقية».

مما سبق فإن استهداف منطقتنا العربية من قبل سياسات الهيمنة الأمريكية هو جزء لا يتجزأ من استهدافها للعالم ككل، فالاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية التي أعادت الانسانية الى زمن الاحتلال الاستعماري المباشر من خلال احتلال العراق، ما زالت تقوم على آراء توماس هويس العنصرية القائلة إن «الانسان ذئب للانسان» و «ان لا شيء يحمل الدول على الاجتماع والتعاون، وبالتالي فإن على دول العالم الخضوع، صراحة او ضمنا، لارادة سلطة مركزية، أي لإرادة الولايات المتحدة الامريكية».

المنطقة العربية والمنطقة الاسلامية عموما تقعان في قوس المصالح الامبريالية الامريكية «النفط والغاز تحديدا»، وواقع حال دول المنطقتين شكل أرضية خصبة لشراسة الهجمة عليها، فدول المنطقتين ترزح تحت مشاكل تخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وصراعات اثنية وعرقية وطائفية افقدتها القوة والمنعة، وابقتها بعيدا عن عالم الحداثة والديمقراطية والتنمية البشرية والاقتصادية المستقلة والمستدامة. لذلك فإن السياسة الأمريكية حيال المنطقة تقوم على مزيد من ممارسة الضغط وتصعيده بمختلف انواعه، لاخضاع المنطقة كليا وربطها بعجلة التبعية لأمريكا، وفي سبيل تحقيق هذا تسعى واشنطن الى تصفية القضية العربية الفلسطينية، وذبح المقاومتين الفلسطينية والعراقية اللتين لا تزالان تشكلان عقبة كأداء في وجه تحقيق مشروع الهيمنة الأمريكية على المنطقة.

لا نستطيع القول إن الاستراتيجية الامريكية قد تغيرت من حيث المبدأ، لكنها اختلفت بشكل جذري من حيث الاساليب بعد الحادي عشر من ايلول، فسياسات الولايات المتحدة بعد احداث الحادي عشر من ايلول بدأت تجاهر علنا بعدائها لمبادئ التعايش السلمي، وتنزع لابقاء الصراع مستمرا بين دول ومجتمعات العالم تحت شعارات نظرية هنغنتون العنصرية «صراع الحضارات والاديان»، ومقولة الفيلسوف المتأمرك فوكوياما بـ«نهاية التاريخ»، وخروج جموع بشرية هائلة منه «والمقصود هنا دول العالم الثالث التي تجاوزها التاريخ» حسب ما يعتقده فوكوياما.

لقد ردت ادارة بوش على الارهاب الذي استهدف مركز التجارة العالمي بتصعيد غير مسبوق منذ سنوات عديدة لارهاب الدولة المنظم الذي مارسته الادارات الأمريكية ضد الكثير من شعوب العالم; فلسطين، فيتنام، كوريا، كوبا، ايران، افغانستان.. الخ. احدى نتائجه المباشرة احتلال العراق ومن قبله افغانستان، ووضع كل منطقة الخليج العربي تحت الوصاية المباشرة لقواعدها العسكرية ومراكز قيادة جيوشها. وزيادة مستوى دعمها وتغطيتها للسياسات الدموية التوسعية، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.

أسست الادارات الأمريكية للسياسات التي تمارس اليوم منذ انتهاء «الحرب الباردة»، مع اختلال ميزان القوى العالمي لصالحها بشكل شبه مطلق، عندما عادت لأساليب الاستعمار بأشكاله التقليدية، الاستعمار الكولونيالي ومن ثم الاحتلال العسكري المباشر. وسياسات الترغيب والترهيب ما زالت النهج الذي تسير عليه الإدارات الأمريكية، وتصاعد هذا مع مجيء ادارة ريغان، التي قادت التحول الكبير في السياسات الامريكية ما بعد المكارثية، وشكلت المهد لولادة سياسات المحافظين الجدد التي نرى نتائجها اليوم على الارض.

وفي عهد الرئيس بوش الابن تحول البيت الابيض الى قيادة اركان حرب، تدير العمليات الحربية على كل الجبهات، ولمختلف اشكال الحروب، الكلاسيكية، الاقتصادية، الاعلامية، الدينية .. الخ. وبوضعهم لـ«الانتصار» في معركة «صراع الحضارات والاديان» هدفا نهائيا، فهذا يعني انهم لن يتورعوا عن استخدام اية اساليب لا اخلاقية في حروبهم، لانها اصلا لا تقوم على اساس او مبرر أخلاقي. وبالتالي ستتحول المعركة من محاولة لفرض الآيديولوجية والفكر الليبرالي الاستئصالي الاحادي المتوحش، الى حروب ابادة جماعية بحق الشعوب.

سؤال طالما سمعناه يتردد في الاروقة الرسمية والاعلامية العربية، اين المخرج من مأزقنا الراهن مع الولايات المتحدة، بالتصدي أم بالتعاطي مع اجندة السياسات الأمريكية؟ صيغة السؤال خير دليل على مأزق اكثر الرسميات العربية وشريحة واسعة من المثقفين العرب، البعض يعيد صياغة السؤال بشكل مختلف، هل سيكون بمقدورنا التصدي للسياسات الأمريكية؟ طبعا اجابة من يطرحون هذا السؤال بهذه الصيغة جاهزة ومعروفة. سيجيبون: المواجهة انتحار، علينا التعاطي معه للتقليل من الخسائر!

لكن دعونا ندقق بالأمر، هل تترك لنا السياسات الأمريكية سوى خيار «الدفاع عن النفس»؟ الجواب المنطقي والعلمي قطعاً لا.

ففي ظل غياب سياسة الحوار عن أجندة سياسات الإدارة الأمريكية لا يبقى لنا بديل عن المقاومة سوى الخضوع، بثمن التنازل عن قضايانا الوطنية وحقنا في أرضنا والسيادة عليها، والتخلي عن ثرواتنا، وجعل دولنا ومجتمعاتنا تحت سيف مظالم نظام التجارة الأحادية الطريق المعولمة، وفريسة للشركات مما فوق القومية والمتعددة الجنسية، لتملي علينا إعادة مأسسة مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسية والاقتصادية بما يخدم مصالح هذه الشركات لتمارس نهبها بشكل مقونن. ونتيجة كل هذا ستكون فقداننا لمقومات التنمية المستقبلة والمستدامة، ليحل بمجتمعاتنا المزيد من الخراب فقراً وتهميشاً وتخلفاً والمزيد من الصراعات الإثنية والدينية والطائفية، لن تكون مجتمعاتنا عندها سوى خزانات تنضح بالعنف الاجتماعي والإرهاب.

ليس لنا سوى خيار المقاومة الوطنية والقومية، وأن نؤسس لهذا الخيار بعملية اصلاح بنيوية وجذرية شاملة لكل المجتمعات العربية، تضعنا على درب الحداثة والتحديث والتقنية الحديثة وعصر الثورة المعرفية، وهذا لا يكون إلا بحكومات تأخذ في قيادتها لمجتمعاتنا بالخيار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة والمفتاح أنظمة ملكية دستورية وجمهورية برلمانية، وبناء مؤسسات المجتمع المدني. بهذا نمتلك القوة والمنعة التي تعيد لنا حقوقنا المغتصبة، ونوقف زحف المشروع الاستعماري الصهيوني، ونتصدى لمشاريع الهيمنة الأمريكية.

مع إدراكنا بأن لا آليات ناجعة دون قيام نظام الحكم الصالح في بلداننا، الحكم المنبثق عن، والمنضبط لمؤسسات دستورية منتخبة بشكل ديمقراطي مباشر وحر، ومبنية على أساليب العمل الجماعي.

ان الاصلاح ليس خياراً، بل ممر اجباري علينا ان نعبره جميعاً، فإن لم يكن بخيارنا، فسنجر اليه بشروط واملاءات الآخرين. بعض الرسميات العربية الحاكمة ما زالت تراهن على امكانية اعادة بناء الجسور مع الادارة الاميركية من خلال الالتحاق بـ«أجندة» السياسات الأمريكية في المنطقة، والعودة الى لعب دور الوكيل المنفذ لهذه السياسات ضمن التطويرات التي بات يتطلبها لعب هذا الدور بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، ولكن هذه أضغاث احلام هيهات ان تشكل البلسم الشافي لحكومات الأنظمة التوليتارية الشمولية القمعية. فسياساتها القمعية تمنع الاستقرار في مجتمعاتها، وتبقيها عرضة لتوترات وصراعات هائلة على كل المستويات. وبمرارة أقول، وفي هذا شيء من المفارقة، إن مستوى البؤس الذي تسببه سياسات هذه الرسميات الحاكمة بسبب التخلف الذي يطال كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لا يمكن الشركات متعددة الجنسية من تحقيق أهدافها في نهب خيرات هذه البلدان بالسرعة والسلاسة المطلوبة. لذلك فهي تسعى الى فرض تغييرات شاملة من زاوية مصالحها للهيمنة على المنطقة وخيرات شعوبها، وهذا جوهر الإصلاحات التي طالبت بها إدارة بوش في مشروعها لإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة والمسمى بـ«مبادرة الشرق الأوسط الكبير». لذلك من مصلحتنا الوطنية أن نأخذ قضايا الإصلاح بيننا، وان نشرع به على الفور، والا فالثمن سيكون باهظاً بخسارتنا لاستقلالنا وهويتنا وحقوقنا في أرضنا والسيادة عليها والتمتع بخيرها.

إذا لم نستنهض قوانا، ولم نحصن مجتمعاتنا بالديمقراطية فإن الهجمة الأمريكية ستزداد شراسة، وستكسب جولات جديدة، واحتلال العراق وممارسات المحتلين، وتصاعد الدموية الاسرائيلية خير شاهد على ذلك.

قد يكون قدر المقاومتين الفلسطينية والعراقية ان تبقيا الى حين ـ لا نعرف الى متى يستمر ـ لوحدهما في ميدان الدفاع الوطني المباشر مع مشاريع الهيمنة والاستعمار والقتل الاسرائيلية والأمريكية. لكن في النهاية هذه السياسات الاستعمارية تحفر قبرها بيدها، أميركا حولت نفسها الى امبراطورية، هي بفعل سياساتها في طور الانحدار ولكن الطويل الأمد، لأنها وضعت مصالح طغمة رأس المال المالي لشركاتها ما فوق القومية فوق مصالح كل شعوب العالم، ومشروع العولمة البديلة بدأ يستقطب حركة واسعة في مواجهة السياسات الأمريكية وسيأتي قريباً اليوم الذي تأخذ فيه الشعوب العربية قدرها بيدها، لتتبوأ مكانها في مواجهة العدوانية الأمريكية، وسياسات هيمنتها المعولمة.

* الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين