تذكر إدوارد سعيد لا يكون بالأرشفة المعلبة

TT

تتناول بعض الصحف العربية إحياء الذكرى السنوية لرحيل أي علَم من الأعلام، بطريقة أرشيفية ممجوجة ومملّة، إذ يتم نشر حِزَم مهولة من المعلومات المعلبة عن الراحل، وكأنها تأرشفت خصيصاً لملء فراغات مجدولة سلفا لمثل هذه المناسبات، المعدة للنشر اليومي.

فصار إحياء ذكرى الراحلين من رجال الفكر والأدباء والفنانين، ناهيك عن السياسيين، لا يخرج عن هذا الإطار المؤرشف البليد منذ عقود..!!

ولأن الراحل ادوارد سعيد يمثل أنموذج المثقف، الذي يملك رؤية، والرؤية موقف، وهذا الموقف قاده إلى إحداث حركة، وهي حركة غير عادية، فكان من المتوقع أن يتم تناول ذكراه، بعد مرور عام على رحيله، بدراسات تحليلية معمقة، تشرح الأسس التي تقوم عليها تلك الرؤية وذلك الفكر المتميز!.. بدلاً من ذلك الغث الذي أمطرتنا به الصحف، حيث أسرفت بإطناب جُلّه لا يتجاوز حدود التسطيح المشبع بالمسلّمات البديهية، كتاريخ ومكان مولده، والمناطق التي تنقل إليها، والمدارس التي تلقّن التعليم فيها.. وعدد الكتب التي قام بتأليفها.. إلخ.. إلخ!.

مع ان ادوارد سعيد قامة مثيرة للجدل، وهناك الكثير ممن جادلوه في أطروحاته أثناء حياته، كجورج طرابيشي، وفؤاد زكريا، والعشرات سواهما.. والغريب أن الذين كتبوا عن ادوارد سعيد في ذكرى رحيله، ليس فيهم من أشار إلى أيّ من المنزلقات التي كثيراً ما تتعثر بها خُطى من يخوضون في المعارك الفكرية والثقافية والسياسية!. في حين ان ادوارد سعيد نفسه أشار في مقدمته لمذكراته إلى بعض من هذه المنزلقات عندما قال: «لم أعف نفسي قصداً من السخرية، ولا من الروايات المحرجة».

ومحزن حقاً أن نجد الصحف الإسرائيلية قد تناولت ذكرى رحيل ادوارد سعيد، بملفات ودراسات، أشرف على البعض منها ديفيد فروم، وهو أكاديمي إسرائيلي، طُرحت في تلك الدراسات، تساؤلات حول علاقات ادوارد سعيد الحميمة ببعض أصدقائه من اليهود.. أمثال (دانيال بارنبويم)، الذي أسس معه فرقة موسيقية.

والطبيب النيويوركي اليهودي الذي كان ادوارد يثق به ثقة عمياء، لدرجة أنه لم يكن يأتمن على حياته سواه.. كذلك علاقته بالمفكر اليهودي (ناعوم تشومسكي)، الذي ارتبط ادوارد سعيد معه بصداقة وطيدة.. وقد جاء في ما كتب في الدراسة ذكر العديد من اليهود ممن ارتبط بهم ذلك المفكر العربي.

ومما جاء في ما كتبته عنه الصحف الإسرائيلية، رأيه في حركة حماس، حيث أجاب عندما سُئل عن ذلك في أحد المؤتمرات، فقال: «حركة احتجاج فلسطيني. لكن، إن سألتني كمواطن فلسطيني، إذا ما كانت حماس تمثل بديلاً حقيقياً على صعيد الحركة الوطنية الفلسطينية، أقول فوراً وبلا تردد: «لا»، والسبب هو أنني لا أعرف لحماس رؤية فلسطينية أو قراءة للتاريخ الفلسطيني.. وينبغي ألا ننسى أن بداية ظهور حماس إلى الوجود، ارتبطت برغبة إسرائيل في ضرب منظمة التحرير، والانتفاضة».

* والواضح مما كتب عن ادوارد سعيد في الصحافة الإسرائيلية، والصحف الأخرى التي تناولت ذكراه باللغة الإنجليزية، قد تم الإعداد له من المختصين والدارسين، والنقاد، فبحثوا ونقّبوا في مختلف الجوانب، في مشروع المفكر العربي ادوارد سعيد وآثاره في الرؤية المستقبلية، فمنذ ظهوره في العلن كسياسي، بالمشاركة في الحوارات التي بدأت في جامعة هارفارد مع بعض المثقفين اليهود في بداية السبعينات، ومع حركة «ميريتس»، التي كان ادوارد سعيد يراهن عليها باعتبارها حركة ممثلة لعناصر اليسار العمالي الإسرائيلي، إلى أن دبّ الخلاف بينه وبين عرفات!. ذلك كله وغيره جاءت عليه الصحف غير العربية!.. بينما حفلت الصحف العربية بالحديث عن بعض أطروحات ادوارد التي سبق أن أعلنت، ونشرت عشرات المرات!.

* ولي مع ادوارد سعيد تجربة حزينة، ولا بأس من الإتيان عليها هنا، لأنها تصور ملمحاً من ملامح شخصيته.

ففي عام 1994، كنت أشرف على إذاعة تبث برامجها باللغة العربية من مدينة لندن، وكنت أتحيّن فرص وجود السياسيين والإعلاميين والفنانين ورجال الفكر، لأتحاور معهم على الهواء مباشرة في برنامج (ليالي لندن)، حيث كانوا في تماسٍ مباشرٍ مع جمهور المشاركين عبر الاتصالات الهاتفية.

وكان البروفيسور ادوارد سعيد مؤلف أهم كتابين: (الاستشراق).. و(الثقافة والاستعمار)، كثيراً ما كان يزور لندن، محاضراً حيناً، ولمتابعة علاجه حيناً آخر.. فهذا البروفيسور المتميز في الأدب المقارن، والنجم اللامع على كل أقرانه من أساتذة جامعة كولومبيا الأمريكية، والسياسي الذي طرح اسمه وزير خارجية أمريكا ـ سيروس فانس ـ ليكون ممثلاً للشعب الفلسطيني في مؤتمر جنيف للسلام، وغير معترض عليه لا من أمريكا ولا من إسرائيل!.

هذا البروفيسور الشهير، كنت اعتبره صيداً ثميناً لبرنامجي، لكنه كلما جاء إلى لندن، وفاتحناه في موضوع المشاركة، كان يرفض رفضاً باتاً، لأنه ضد مبدأ الاتصالات الهاتفية التي تأتيه من أناس يتستّرون وراء حجب الهواتف ـ على حد تعبيره ـ وهو لا يرغب أن يعرّض نفسه لتساؤلات قد تكون غير مسؤولة أو ملتزمة بالحدود اللائقة!

وقد بذلت جهداً كبيراً في محاولة لإقناعه، إلا أنه كان مُصرّاً على الرفض.. وبعد وساطات تدخل فيها مكتب المفوضية الفلسطينية في لندن، ممن شرحوا له موقف الإذاعة الإيجابي من القضية الفلسطينية، فوافق شريطة أن أُسجّل له حواراً بعد أن أقدم له الأسئلة مكتوبة.

ولم أجد بُداً من استغلال فرصة كهذه، وذهبت إليه في الموعد المحدد، فوجدت البروفيسور واجماً، وردّ عليّ السلام ببرود لم أكن أتوقعه، وبادرني بالقول: «قبل أن تفتح أجهزتك، أريدك أن تعرف أنني لن أُجيب عن أسئلة اصطبغت بالصبغة العرفاتية..!؟». فالدكتور ادوارد سعيد اعتبر سؤالي إليه في ما قاله عنه عرفات ـ ونشرته مجلة «المصور» المصرية ـ عندما سُئل أبو عمار عن رأيه في كتاب (غزة ـ أريحا: سلام أمريكي)، اعتبره تحيّزاً لعرفات، لأن الزعيم الفلسطيني قال عن كتاب ادوارد سعيد: «إنه كتاب تافه، وأنا قرأته على سبيل التسلية، وهو أتفه من أن أرد عليه.. وادوارد سعيد يعيش في أمريكا، ولا يدرك حجم الانتفاضة، ولا يشعر بعذاب شعبه، وهو من (المتشعلقين) على حبال الوطنية، بينما الشعب الفلسطيني يفقد آلاف الشهداء أثناء الانتفاضة، بيد أن ادوارد سعيد يعيش في أمريكا دون أن يدرك المأساة!».

اعتبر البروفيسور أن هذا السؤال استفزازي، وعرفاتي، فقلت له: «لنلغ هذا السؤال، ولنسجل الحوار بالأسئلة الأخرى، ونحذف منها كل ما لا تراه مناسباً.. لكن ادوارد سعيد رفض بإصرار وكان غاضباً جداً، حيث قال لي: «إن عرفاتك هذا ينسى أو يتناسى ما أقوم به من دور من أجل القضية الفلسطينية، حتى وإن كنت أعيش في أمريكا، بينما عرفات نفسه، يعيش بالنعيم في قصور تونس ويتنقل بالطائرات الخاصة وسيارات الليموزين الفارهة، وينام في غرف الحكم الفخمة.. وهي بعيدة كل البعد عن الانتفاضة وشعبها زماناً.. ومكاناً..!».

فقلت له: «لندع الكلام عن عرفات وعن القضية الفلسطينية، وعن السياسة بعمومها، وليكن حوارنا عن حياتك الخاصة!».

فسألني: «وماذا تعرف عن حياتي الخاصة؟!».

فأجبت: «ليكن حديثنا مثلاً عن فرقتك الموسيقية التي أنشأتها مع صديقك الأرجنتيني الأصل، الإسرائيلي الجنسية، دانيال بارنبويم، أو نتكلم عن قصة حبك لـ«ايفا»..».

فاستوقفني غاضباً.. ولم أجد بداً من قطع المناقشة بترك الفندق.. وقد تركت تلك التجربة أثراً حزيناً في نفسي لعدم تمكني من إجراء ذلك الحوار مع عملاق في حجم ادوارد سعيد.