خيارات مجابهة الإرهاب.. بين (المعقول) و(المجنون)

TT

ان الارهاب واقع ملموس، لا مسوغ ـ قط ـ لغض البصر عنه، ولا للتلطيف من غلظته وآثاره المدمرة.. واقع ملموس: يرجم الناس ـ هنا وهناك وهنالك ـ برجومه وشواظه، لذا، فإن الارهاب الراهن والمتوقع: شر كله. خراب كله. فساد كله. احزان كله.. وانه لمنحرف التفكير، مريض النفس، عديم الانسانية: من لا يدين الارهاب او يتردد في تأثيمه وتجريمه. اذ ليس للارهاب معاذير، ولو ألقى معاذيره. فليس هناك ما يسوغ الارهاب حتى لو وقع الظلم على هذا الانسان او ذاك، على هذه الأمة او تلك. فالظلم لا يُزال بظلم افدح منه: يروع الآمنين المسالمين ويقتلهم، ويبطش بطش الجبارين. ولو اعتُمد هذا النهج او الاسلوب، لما استطاع الناس: العيش على هذه الارض بأمن وسلام.

هذا هو المقال الرابع من سلسلة (قراءة جديدة لزلزال 11 سبتمبر وتوابعه).

ولقد انتهى مقال الاسبوع الماضي بهذا السؤال: ما الحل الذي يخرج العالم ـ أميركا ونحن والناس اجمعين ـ: من ظلمة الارهاب، وكربه الأليم؟

للجواب عن هذا السؤال: قُدِّمت رؤى متنوعة: انتظم بعضها مفاهيم جيدة تتضمن حلولا حسنة. ولكن هذه الرؤى لا تكاد تبين في زحمة الاصوات المنادية بتحويل الكوكب الى محيط من الدم: يغسل الدم الذي سفحه الارهاب!!.

وهناك رؤى لا تخلو من عجب، بل ملؤها الجنون:

1 ـ رؤية تقول ـ بلسان الحال والمقال ـ: ان انجع واجدى حل للقضاء على ظاهرة الارهاب هو: الالحاد او نشر (ثقافة الالحاد). فما دام الارهاب الذي ضرب في نيويورك وواشنطن مثلا قد تلبس بالدين (الاسلام)، فإن الحل الجذري هو: (نقض) المصدر نفسه، لا (نقد) الذين اتبعوا المصدر فحسب.. ومنهم من قال بصراحة: ان اصل المشكلة هو الاسلام ذاته، وان الشباب الذي باشر الارهاب انما هو ضحية من ضحايا الاسلام. وهذه المقولة صدرت عن ايديولوجيين غربيين: قلدهم فيها ـ سراعا ـ اناس في الوطن العربي.. وموجز المقولة هو: ان الازمة تكمن في (الاعتقاد الديني)، وان الحل يمثل في التحرر من هذا الاعتقاد: بالالحاد.

ومع ما في هذه المقولة من جهالة مستفزة، فإن المنهج الموضوعي يقضي بمناقشتها بهدوء عقلاني.. ان هذا الحل يكتنفه ما يجعله غير قادر وغير حاسم في نقض الغلو في الدين الذي قاد الى العنف الدامي. أ ـ فليس للالحاد حجة عقلية تسنده، لا من بداهة ولا منطق ولا من حقيقة علمية، بل هو معرة مخجلة في عصر اليقين الفيزيائي ـ مثلا ـ بان وراء نشأة الكون: قوة عليمة مدبرة حكيمة مبدعة. وتبني الالحاد في ظل هذه الحقائق العلمية الساطعة يعني تبنيا لخيار غير عقلاني، وفي غياب العقلانية، تبدو حجة الغلو ـ على تهافتها ـ اقوى من حجة الالحاد. وهذا في مصلحة الغلو بلا ريب. ب ـ ان اعتماد الالحاد يقدم للغلو اوسع الذرائع للتفشي والتغلغل، فإذا كان مجرد التفلت من الدين يزيد الغلو حدة، فان الالحاد يزيده هوسا وجنونا. جـ ـ ان من الملاحدة والكافرين من هو ارهابي وعنيف.. ففي القديم كان منطق الكافر الملحد وموقفه وسياسته هو: «وقال فرعون ذروني اقتل موسى وليدع ربه اني اخاف ان يبدل دينكم او ان يظهر في الارض الفساد».. وفي الحديث جعل كارل ماركس: (العنف)، في صلب الفلسفة الشيوعية لتغيير العالم. وهذا هو نص البيان الشيوعي الاول في هذه المسألة: «ان الشيوعيين يعدون اخفاء آرائهم ونواياهم عملا عقيما بلا جدوى. وهم يعلنون جهرا ان اهدافهم لا يمكن تحقيقها الا بقلب النظام الاجتماعي الحالي بأكمله بوسائل العنف». وكارل ماركس كان ملحدا.. والمستخلص هو: ان الالحاد ليس علاجا للعنف.

2 ـ ورؤية اخرى تقول ـ بلسان الحال والمقال ـ: ان انجع واجدى حل للقضاء على ظاهرة الارهاب هو (نشر الفساد على اوسع نطاق وبطريقة منهجية). فمن شأن الفساد بمفهومه الاجتماعي والاخلاقي الشامل: ان يشغل الشباب عن الوقوع في فخاخ الغلو الديني والعنف والارهاب.. ومع ما في هذه المقولة من جهالة مستفزة، فان المنهج الموضوعي يقضي ـ كذلك ـ بمناقشتها بهدوء عقلاني.. أ ـ من الظواهر النفسية والاجتماعية المهمة: ان شرائح من الذين سقطوا في مستنقع العنف والارهاب كانت من قبل موغلة في الفساد ولم تكن طفرتها الى الجهة المقابلة الا رد فعل حادا وعنيفا. وبناء على هذه التجربة، فإن مزيدا من نشر الفساد يؤدي الى مزيد من ردود الفعل الغالية المتطرفة: كحركة تكفير عما مضى، او كنوع من جلد الذات وعقابها. ب ـ ان هذا السلاح (الفساد) الذي يظنه الواهمون: وسيلة حاسمة في مواجهة الغلو والعنف، قد كسره الارهابيون انفسهم. فقد خاض بعضهم في الفساد الغليظ وباشره، على الاقل كتكتيك او غطاء لتحركاتهم ونشاطاتهم. فبعض الذين باشروا التفجير في نيويورك وواشنطن، كانت له عشيقات «!!« وهو امر فجع عائلاتهم التي لم تكن تعلم هذا التحول.. بل ان كبيرا منظريهم ومخططيهم كان يقضي ـ في الفلبين ـ نهاره في التخطيط للعمل الارهابي، فاذا جن عليه الليل: ارتاد ما يسمى بـ (الاحياء الساخنة) في مانيلا. وكان لديه حشد من الفتيات اللاتي يغمرهن بالهدايا الثمينة بحسبانه شيخا ثريا.. ونرجح ان يكون لهم تأويل ديني فاسد في هذا السلوك. فالذي يستحل سفك الدم الانساني المعصوم بتأويل فاسد، لا يستبعد عليه: ان يستحل الخمر والزنا، بتأويل فاسد ايضا.. والمستخلص ان الفساد ليس (عاصما) من الارهاب، بل هو غطاء او مناخ له كما رأينا.

3 ـ ومن الحلول المطروحة: مكافحة الارهاب: بالقوة العسكرية والامنية.. وليس يشك امرؤ واقعي او عملي التفكير في مشروعية هذا الاسلوب ولا في جدواه وفاعليته. فمن حق كل دولة ان تواجه ـ بالقوة ـ كل من حمل السلاح وضرب وبطش، ذلك ان من الاهداف الثابتة لكل دولة: توفير الأمن للناس في البيوت والشوارع والمدارس وسائر المؤسسات وفي حركة الحياة كلها، والا كيف تنتظم الحياة وتستقر؟.. ومع مشروعية هذا الاسلوب وجدواه وفاعليته و(ضرورته)، فانه وحده لا يكفي، لان الاسلوب الامني (المادي) يضرب (الصورة المادية الظاهرة للجريمة الارهابية، ولكن يبقى (الرد المعنوي للجريمة) كامنا في الذهن والمخ والصدر. ومما لا ريب فيه ان هذا (الجذر المستتر) للجريمة يتطلب علاجا آخر: يدير المعركة الحقيقية والكبرى في الذهن والعقل والفكر والوجدان: ابتغاء تحرير هذه المنطقة المعنوية وتطهيرها من المفاهيم الشريرة والافكار الفاسدة المدمرة.

الخيار الأجدى والأكثر رجحانا:

العقل الانساني ـ انى كان وحيث كان ـ: يدعو الى (الاجتهاد) المستمر من اجل ايجاد او استنباط خيارات راشدة وعملية خليقة بتطهير الكوكب من وباء الارهاب او على الاقل محاصرة الوباء في اضيق دائرة.

ولعلنا نسهم في الخيارات الاجتهادية المطلوبة باستنباط الخيار التالي:

اولاًـ تحديد (مفهوم الارهاب) وضبطه علميا وقانونيا، على ان يتولى التحديد والضبط: فريق دولي مقتدر ومؤتمن تمثل فيه الامم كافة، من حيث ان من حق كل امة ان تبدي رأيها في امر يمس امنها الداخلي وعلاقاتها الخارجية.. وتحديد المفهوم هو ركيزة الركائز في هذا الخيار، لأن المفهوم الغائم الغامض المضطرب يخدم الارهابيين انفسهم، بمعنى انهم يظنون ان اعمالهم الاجرامية لا يشملها هذا المفهوم او التعريف!.. ويندغم في التعريف المحدد: حماية اجندة مكافحة الارهاب من التفخيخ بأجندات اخرى: كالاجندة الصهيونية التي تعد الاسلام ارهابا، والمقاومة المشروعة ارهابا، ونقد السلوك الصهيوني الظالم ارهابا.

ثانياً ـ الاستقرار على حقيقة: ان اصل الارهاب (فكر) وفي ضوء هذه الحقيقة: يتعين رسم خريطة طويلة الأمد هدفها (زلزلة اليقين بالمفاهيم الخاطئة). فهذه المفاهيم والافكار ستظل مصدر تغذية للارهابيين، وهم موقنون بأنها صواب، وما هم بمنفكين عنها حتى تقع زلزلة قوية في عقولهم وادمغتهم تحملهم ـ بالضرورة ـ على الشك العاصف فيما كانوا يعدونه: اقتناعا قويا، بل يقينا راسخا.

ثالثاً ـ حصر مسؤولية الفعل الاجرامي فيمن يباشره. ومن هنا يُعد ارهابا: قذف أمة ما او دين ما بتهمة الارهاب. ويلحق بهذا: التعاهد على الكف المتبادل عن سب الآلهة والاديان والشعوب، تفاديا لتداعيات التوترات الدينية والعرقية التي يموج بها العالم، والتي تمثل افضل مناخ للارهاب.

رابعاً ـ (أنسنة) الخطاب السياسي والاعلامي والثقافي والتسامي بمضامينه واساليبه حتى يكون اداة تفاهم بين الامم. مع اجتناب استعمال الشعارات والمصطلحات الموحية بالصراع والصداع.

خامساًـ انشاء (هيئة عالمية)، ذات وزن وفاعلية، يكون عمادها علماء وخبراء في التاريخ والحضارة والدين والأمن والاقتصاد والنفس والتربية والاجتماع والاعلام وظيفة هذه الهيئة هي: الدراسة العلمية والميدانية لظاهرة الارهاب وتقديم المشورة التي تستند اليها القرارات الوطنية والدولية في مكافحة الارهاب: بصورة جماعية متناغمة متكاملة وان توزعت الادوار.