أسبوع عمالي لبلير..هل يخرجه من المتاهة والمكائد ؟

TT

بدأ هذا الأسبوع بغيوم كثيفة في سماء مدينة برايتون، حين وصلها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، لحضور المؤتمر السنوي لحزب العمال، تطارده صور العجوز البريطاني كينيث بينجلي اسيرا ذليلا، وسيف الارهابيين ـ الذي ذبح امريكيين بريئين قبلها بأسبوع ـ مسلطا فوق رأسه. تعمدت عصابة المختطفين ايصال شريط فيديو جديد ـ يثير الغثيان ـ الى فاترينة الجزيرة التي تعرض البضاعة الدموية في اوكازيون المنافسة بين الشقيين المريضين نفسيا psychopaths اسامة بن لادن وابي مصعب الزرقاوي، عشية دفع يسار حزب العمال بمشروع توصية بسحب القوات البريطانية من العراق.

وبعكس اعتقاد زملاء مراقبين، الإرهابيون لا يضربون عشوائيا. توقيت عرض الجزيرة لأشرطة الإرهابيين يعكس فهمهم الخبيث لطريقة عمل الصحافة الحرة في بريطانيا. الزرقاوي وحش خلقه الجراح فرانكنشتين في «مشرحة» التجارب التي أدارتها وكالة الـ «سي اي ايه» في افغانستان. بن لادن والزرقاوي وايمن الظواهري، خريجو مدرسة الـ «سي اي ايه» في حربها ضد السوفيات في افغانستان. تعاملت مع المجاهدين (الماركة التي سوقت بها الـ «سي اي ايه» الإرهابيين) ومهربي المخدرات والمطلوبين للعدالة، في شارع صحافة العالم الحر، بحجة الدفاع عن «استقلال» افغانستان ضد الشمولية الشيوعية. وابتلع كثير منا الطعم، قبل اكتشاف طاعون «الطالبان» الاصولي وقد حل محل انفلونزا الشيوعية، مع رجال المخابرات البريطانية والأمريكية جعلهم يدرسون طريقة تسريب المعلومات، مما أكسب الإرهابيين مهارة غير متوقعة في التلاعب بغرائز الصحفيين، خاصة المسؤولين عن نشرات الأخبار في بعض المحطات العربية. ورغم امتلاك صحفيين عرب لأحدث وسائل تكنولوجيا البث، تنقصهم الخبرة الطويلة في وسائل عريقة كالـ «بي بي سي» و«اي تي ان» مثلا، فاستغل الارهابيون سيل لعابهم لما اعتبروه سبقا صحفيا. نجحت بروباجندا الإرهابيين في توجيه اقسى ضربات الاحراج السياسي لرئيس الوزراء بلير، بتوقيت بث صور تثير مشاعر البريطانيين ضد حكومتهم، وضد الوجود العسكري البريطاني في العراق، عشية خطاب بلير الأول للمؤتمر، ثم عشية مناقشة مشروع توصية سحب القوات.

ولحسن حظ العراقيين، قبل بلير، انتهت المناقشة الحامية الوطيس، التي جرت صباح الخميس، بهزيمة اليسار وانتصار الحكومة بأكثر مما توقع توني بلير نفسه. أكثر من 85% من الدوائر الانتخابية، وأكثر من 90% من النقابات والكتل، هزمت مشروع اليسار بسحب القوات والذي لم يحظ سوى بـ 15% من الأصوات.

وتم قبول «بقاء القوات تحت طلب الحكومة العراقية»، وسحبها عندما تطلب منها تلك الحكومة ذلك.

ورغم ان توصيات المؤتمر غير ملزمة للحكومة ـ لأنها منتخبة من الأمة جمعاء وليست من المؤتمر ـ مثل تجاهل الحكومة لتوصية بإعادة تأميم شركات السكك الحديدية، الا ان تصويت الأغلبية على توصية سحب القوات، كان سيحرج الحكومة ويعتبر نصرا ساحقا للإرهابيين على اعرق وأقدم ديموقراطيات العالم الحديث، وعلى الأمة العراقية نفسها. فجماعة الزرقاوي ـ المشتبه الأول في تفجير قطارات مدريد ـ تمكنت من التأثير على العملية الديموقراطية في اسبانيا، وان كانت حماقة حكومة ماريا خوسيه اثنار، بالكذب على الشعب ومحاولة إلصاق التهمة بمنظمة ايتا الإنفصالية في اقليم الباسك، هي التي أغضبت الناخب الاسباني.

نجح المحامي بلير، ووزير خارجيته جاك سترو، وهو قانوني آخر، في توجيه الجدل والمناقشة، بعيدا عن المسار المضر بمستقبل بلير السياسي، حول اسباب خوض الحرب ـ خاصة بعد حصول الصحفي اندرو جيليجان، مراسل الـ «بي بي سي» العسكري السابق، الذي فجر تقريره حول اسلحة الدمار الشامل، الصراع بين داوننج ستريت والـ «بي بي سي»، على وثائق تشير الى اتفاق بلير مع الرئيس الأمريكي جورج بوش على «إسقاط نظام صدام حسين» في صيف عام 2002، ثم اتهام وزير الخارجية السابق روبين كوك، ووزيرة شؤون تنمية ما وراء البحار السابقة كلير شورت، بلير «بحجب المعلومات عن مجلس الوزراء» عشية مناقشة توصية سحب القوات. نجحت حكومة بلير في تركيز الجدل حول «سحب القوات والهرب من وجه الإرهابيين والتخلي عن الشعب العراقي في محنته»; او بقائها لمساعدة ابناء الأمة العراقية على بناء وطنهم؟ النائب العمالي المسلم، شاهد مالك، وهو عضو اللجنة التنفيذية للحزب، قال ببلاغة، انه كمسلم عارض الحرب على العراق، لكنه ناشد بقاء القوات لحماية العراقيين وعدم التخلي عن الشعب. كما خاطبت سيدة عراقية كردية المؤتمر بعواطف جياشة، ساردة سجل نظام البعث ضد الأكراد وضد المعارضين العراقيين بقولها «كل ما نطلبه هو الحرية مثلكم». ولم يكن امام اليسار، الذي يتعاطف تقليديا مع الضعيف، وتعود معارضته للحرب الى عدائه التقليدي لأمريكا ولأي سياسة تقودها امريكا، الا رفض مشروع توصية سحب القوات، لأن في ذلك تخليا عن الطرف الضعيف عند الحاجة.

ورغم خروج بلير في نهاية الأسبوع أقوى من بدايته، فإن انتصاره السياسي لا يعني الخروج من المتاهة، فالطريق أمامه مليء بالكمائن المقصودة، من اليسار ومن القوى التي تريد الإطاحة بمشروع العمال الجديد، او من الألغام غير المقصودة التي بثها اليسار، بسبب الشيزوفرينيا التاريخية التي يعاني منها في التعامل مع الإسلام ومع التيارات الإسلامية. والحرب على الإرهاب، او الأخطار التي يشكلها الإرهاب ـ وباستثناء يوم 11 سبتمبر 2001، فإن اغلب ضحاياها في العقدين الأخيرين كانوا من المسلمين ـ لا يمكن التعامل معها، سواء شئنا ام ابينا، من دون التعامل مع التيارات الإسلامية بكافة أشكالها واتجاهاتها، والمناقشة الفلسفية التي تغوص الى تعريف المعتنقين للإسلام بما يقصدونه بالعقيدة نفسها، خاصة وان بعض ابناء الأسر الإسلامية في بريطانيا، وقعوا ضحايا تغرير زعماء الإرهاب بهم وتجنيدهم لأعمال العنف، باسم العقيدة نفسها.

خذ مثلا، تمسك يسار حزب العمال في لندن، بتأييد العمدة اليساري المتطرف كين ليفينجستون في قراره باستضافة الداعية التلفزيوني الشيخ يوسف القرضاوي، تحت وهم تأييد العمال للمسلمين، وتحت الوهم الذي روجت له «الفترينات» الفضائية ان القرضاوي يمثل «الاسلام المعتدل»

وتبدو شيزوفرينيا اليسار هنا، بأن «حرية الفكر، وحرية الاختيار، والمساواة بين الجنسين وبين الاجناس والأديان، والسلام، والإقناع بالحجة وصندوق الانتخاب قبل الرصاص»، وهي المبادئ والقيم التقليدية التي تقوم عليها الحركات الليبرالية واليسارية، يدوسها القرضاوي بقدمه ويتجاهلها باحتقار وازدراء في فتاواه المتكررة في فاترينة الجزيرة مثلا. فالقرضاوي «المعتدل» يجيز اغتيال وقتل العراقيين «المتعاونين مع الاحتلال». وبما ان جميع ضحايا العنف الذي يجيزه «المعتدل» القرضاوي، هم، تقريبا، من المسلمين، فمن هم اذن المسلمون الذين يعتقد يسار حزب العمال انه يدعمهم باستضافة المتطرف ليفينجستون للقرضاوي؟ واذا كان اليسار يدعم المساواة والإخاء، فكيف يستقبلون القرضاوي الذي يجيز ذبح الأخريين ـ لأنهم من دين وجنس آخرين؟ وكيف يصالح اليسار بين ايمانه بالمساواة بين الجنسين، والمعاملة بالتي هي احسن، وبين احتضانه لمن دعوا لضرب الزوجات والبنات وإجازته للعنف؟ انه اليسار نفسه الذي حاول منح الإرهابيين جائزة كبيرة بمحاولة إحراجه رئيس الوزراء بلير ـ لأسباب ايدولوجية عاطفية بالدرجة الأولى ـ بتوصية بسحب القوات، وهو ما كان العراقيون ـ وأغلبيتهم مسلمة ـ سيدفعون ثمنا باهظا له من حياتهم لو تحقق لليسار ما أراد. وحتى يعالج اليسار ـ داخل حزب العمال الحاكم وخارجه ـ نفسه من الشيزوفرانيا التاريخية، في التعامل مع العالم الثالث عموما، ومع الإسلام والتيارات الإسلامية في هذه المرحلة العصيبة ـ بالنسبة للمسلمين اكثر من غيرهم ـ فعلى رئيس الوزراء البريطاني ان يراقب الخناجر في ايدي اليسار التي قد تطعنه في الظهر، أكثر من مراقبته للإرهابيين والأعداء التقليديين، عملا بالقول المأثور «اللهم قني شر أصدقائي، فأعدائي أنا كفيل بهم».