بداية خالية من المفاجآت للمناظرات الرئاسية الأميركية

TT

احسب ان مخططي حملتي الرئيس الاميركي جورج بوش ومنافسه الديمقراطي السناتور جون كيري كانوا راضين عن حصيلة المناظرة الأولى في سلسلة المناظرات الثلاث التي تتوّج حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية الحالية.

فبوش، القريب الى ذهنية المواطن الأميركي العادي بعفويته وبساطته، استفاد كثيراً عبر السنوات الأربع الأخيرة من لجوء خصومه الى تصويره كاريكاتورياً على أنه رجل محدود الذكاء ومحدود الثقافة. ذلك انه في كل مرة أدى فيها مناظرة أو ألقى فيها خطبة فاق مستوى ادائه المستوى المتواضع جداً المتوقع له سلفاً، كسب مزيداً من المؤيدين المتعاطفين مع شخص متحامل عليه.

وحقاً نجح مخططو حملة بوش و«صانعو» صورته الشعبية في ان يجعلوا منه «ضحية» طيبة تتكلم لغة الشعب البسيطة المباشرة، وروّجوا وضخّموا في أجهزة الاعلام مزايا شخصيته كالتدين والعناد والوطنية الغيورة والتفاني في الدفاع عن مصالح أميركا وأمنها حتى اذا اقتضى الأمر معاداة كل دول العالم. واذا تذكرنا ان ما لا يقل عن 45 % من الأميركيين لا يتحرجون اليوم في وصف انفسهم بأنهم «محافظون» مقابل 17 % فقط يتحمسون لوصف أنفسهم بأنهم «ليبراليون» فان هذه المزايا تصبح أكثر من ايجابية.

في المقابل، كان مخططو حملة كيري يدركون ان التغير الديموغرافي في أميركا يتجه أكثر فأكثر نحو اليمين ليس في مصلحتهم. كما ان اختيار الحزب الديمقراطي سياسياً ليبرالياً معروفاً من ولاية ماساتشوستس بالذات ـ المعروفة بأنها عرين الليبرالية الأميركية ـ لخوض انتخابات رئاسية لن يتمتع فيها بأدنى فرصة لتحقيق اختراق في ولايات الجنوب التقليدي والوسط الغربي، عنصر بالكاد يشجع على التفاؤل باستعادة البيت الأبيض، ناهيك من قيادة الديمقراطيين لاستعادة السيطرة على الكونغرس، أو على الأقل احد مجلسيه.

ثم ان بوش، المكتنزة خزانته القتالية بأموال الداعمين السّمان، استطاع بعد المؤتمر الترشيحي للحزب الجمهوري تحقيق سبق كبير في استطلاعات الرأي عن كيري. وتمكنت الحملة التشكيكية لجماعة «سويفت بوت» للمحاربين القدماء اليمينيين من «تنفيس» تركيز المرشح الديمقراطي على سجله القتالي في فيتنام. وكان كيري يتعمد من لعب ورقة خدمته في فيتنام، بالطبع، احراج بوش والغمز من قناة تهربه من الخدمة العسكرية الفعلية بينما هو يدّعي انه المحارب الصلب للارهاب والارهابيين.

اذاً، دخل المرشحان الجولة الأولى من المناظرات، التي كانت مخصصة للسياسة الدولية، بأرجحية لصالح بوش. وبالتالي كان على الرئيس الجمهوري مجرّد تفادي الوقوع في خطأ مميت، في حين كان على منافسه الديمقراطي دفع الرئيس الى موقع الدفاع عن النفس بتركيز حاد ومباشر على القضايا من دون اسهاب او اطالة.

من التعليقات المبكرة على ما جرى يبدو ان أياً من الجانبين، لم يسدد «ضربة قاضية» لغريمه. فبوش أدى كما بات متوقعاً منه أن يؤدي، مكرراً ثوابته السياسية المألوفة وفي مقدمها الربط بين ضبط الأمور أميركياً في العراق والحرب المستمرة على الارهاب. كما كرّر التذكير بسجله في الدفاع عن مكانة أميركا العالمية والتزامه ببقائها القوة العظمى الوحيدة.

وفي المقابل، نجح كيري في استغلال مستجدات الوضع العراقي وتعذر تصفية تنظيم «القاعدة» لرسم خط فاصل عريض بين العراق ومواصلة الحرب على الارهاب. وكان المرشح الديمقراطي موفقاً بالفعل في توضيح هذا الجانب، منتقداً الادارة الجمهورية على ما يعتبره «اهمالها الحرب الأساسية» التي هي مكافحة الارهاب، وانصرافها بدلاً من ذلك الى مغامرة جانبية في العراق قامت على «سوء التقدير» وسوء الحسابات.

الواقع هذا الموضوع الذي تصدر وسيظل متصدراً جدول اعمال المرشح المنتصر في معركة 2 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، كان عن جدارة المحور الرئيس في مساجلات السياسة الخارجية. فحيال المواضيع الأخرى ليست ثمة فوارق تذكر بين سياسات الرجلين الا بالتفاصيل.

في موضوع النزاع العربي ـ الاسرائيلي، مثلاً، المرشحان الجمهوري والديمقراطي يفاخران بتحالفهما الاستراتيجي الثابت مع اسرائيل وتأييدهما المطلق لأي قيادة تتولى السلطة فيها. وفي موضوع انتشار الأسلحة النووية في «الدول المارقة» كإيران وكوريا الشمالية لا خلاف جذرياً بين المرشحين. أما الخلاف الظاهر في موضوع الاعتماد على نفط الشرق الأوسط وما له من صلات مع الحرب ضد الارهاب، فانه مرشح للبروز أكثر في مناظرة السياسة الداخلية والاقتصاد، حيث معروف عن كيري تحمسه للطاقة البديلة والتخلي عن نفط المنطقة، في حين يعد بوش واركان ادارته حلفاء مصلحيين لـ«لوبي النفط». وهذا مع ان أي تفكير بأن تكون مناطق كالخليج العربي وبحر قزوين ووسط آسيا ـ وكلها مناطق اسلامية ـ خارج الحسابات الأميركية، تفكير ساذج يجهل مقومات المجتمع والاقتصاد ومؤسسة السلطة في الولايات المتحدة.

ان أحداً لا يمكن ان يتوقع «انسحاباً» أميركياً من القضايا العالمية.

هذا أمر غير وارد بصرف النظر عمن سيفوز يوم 2 نوفمبر. الا ان المناظرة الأولى كشفت اختلاف الأسلوب وتنوع الخيارات التكتيكية بين ادارة جمهورية حددت اولوياتها وسارت عليها بصورة ايديولوجية وفردية تقريباً مستغلة جرح اعتداءات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 ...وبين معارضة ديمقراطية تحاول بعد مهادنة واستكانة طويلتين انتقاد الأسلوب في بلوغ الهدف الأبعد، وترى ان نهج الاقناع والحرص على بناء تحالفات دولية عريضة، خيار أسلم وأقل كلفة من شن الحروب الاستباقية بعسكريين أميركيين.