على رصيف بابل

TT

الشيء الأكثر طلبا في الوحدة الاوروبية، ليس «اليورو» بل الشمس. وقد كان من الممكن في هذا الصيف الذي لم يتبق منه الكثير، ان ترى نماذج من جميع الشعوب الاوروبية على رصيف في «كان». هناك أهل الشمال، اي الاكثر شقرة وطول قامات وزرقة اعين، وهناك اهل الجنوب الذي منه جاءت صوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا... وهيفاء وهبي! وهناك عدد من اللغات لا يطاق. وقد اختلط الامر على اليهود في بابل بسبب بضع لهجات، وعادوا يخبرون بما استفظعوا. ولكن مدن الصيف في اوروبا فيها 25 لغة «رسمية» على الاقل، بالاضافة الى اللغات واللهجات المستضافة.

وفيها الروس. وكلما ذهبت في الصباح لأشتري جرائدي، وجدتهم في ضجة عالية وصخب كأنما يتشاجرون حول النفط في بحر قزوين. لكنني تطلعت فرأيتهم يتشاورون في لائحة الفطور. وراحوا يهمهمون باحتجاج، ونادوا، من حناجر الرئة، على النادل فجاء مذعورا ومثُلَ. وتبين ان لائحة الفطور خالية من اللحم البقري والارز المطبوخ بالبيض. وعبثا حاول المسكين اقناع الفرقة الروسية بأن الفرنسيين يتناولون للفطور «الكرواسان»، والحلويات النمساوية والبسكوت. ومنذ ذلك الوقت وانا انتقي لنفسي مكانا يملكه التوانسة على «الكروازيت»، صورة اخرى لعالم اليوم. ففي هذا الكشك الصغير كل صحف العالم الكبرى في يوم صدورها. وفي كل اللغات. وهناك مئات المجلات لألف ذوق: الرياضة واليخوت والكلمات المتقاطعة والحدائق والاقتصاد والرفق بالحيوان والفنون وكيف تبلط مطبخك بنفسك والانحطاط وسواه.

وهذا الصيف ظهرت في الاكشاك الصحف الكبرى بحجم «التابلويد»، كـ«التايمس». واعتقد انه لن يترك روبرت مردوخ تخريبا ممكنا الا ويلحقه او ينزله بالصحافة المحترمة. وفي اي حال، كان قد حوّل مضمون «التايمس» من قبل الى التسطيح التي هي فيه. وكنت في الماضي اقرأ «التايمس» كمدرسة يومية في الصحافة فأصبحت أقلبها من باب الفضول ورفع العتب. واعتقد ان المادة «المشغولة» فيها لا تعادل 10% مما تنشره «الموند» في اليوم الواحد. وقد جرت «التايمس» خلفها الصحف الاخرى في هذا الاتجاه. وربما كان السبب في هذه «الثورة» الذوقية عند البريطانيين، الثقافة التي نشرتها ديانا اوف سبنسر في عمرها الخاطف الذي ضم زوجا وسائسا للخيل وحارسا للاسطبل وطبيبا باكستانيا ومنتجا مصريا شابا حلت عليه لعنة الابتسامة البريئة.

هل نريد ان نقوّم هذا العالم؟ لا. دعك من «التايمس» واقرأ «الملحق الادبي للتايمس». ان ايدي مردوخ لن تصل اليه. واقرأ ايضا الكتاب الماتع الذي صدر عن مائة عام من تاريخه. لأن هكذا فقط يمكن ان تعرف لماذا تعيش المؤسسات اكثر من قرن. انه الاجتهاد يا عزيزي.