أرجوك لا تتركني

TT

في كتاب «لجيمس ميشنر»، وردت الحكاية الحقيقية التالية، لأن من فعلها قد كتبها في إحدى الصحف الألمانية قبل أن تصير، وهي كالتالي:

انه في عام 1930 كان يقيم في استراليا رجل مثقف مهذب، استطاع أن يتنبأ بأن حربا عظمى توشك أن تنشب في العالم، ولم يكن يرغب في تحمل أهوالها، فأمضى وقتا طويلا يفكر في أي الطرق ينبغي على الرجل العاقل أن يسلكها إذا أراد الهرب. وانتهى الرجل من دراسته إلى أن أوروبا ستنفجر، وان النيران الناجمة منها لا بد ستلتهم أفريقيا ومعظم آسيا.. وببصيرة خارقة استنتج الرجل أن استراليا، نظرا لافتقارها للدفاع ـ بسبب انشغال رجالها بالحرب في أوروبا، ستصبح معرضة لخطر الغزو من آسيا.

وفكر الرجل في الهجرة إلى أميركا، ولكنه استبعد هذه الفكرة، بحجة أنها غير عملية، لما بدا له من أن أميركا قد تدخل الحرب أيضا.

وأخيرا ـ وبعد تفكير منطقي دقيق ـ قرر أن ملاذه الأمين الذي يحميه من جنون العالم لا بد أن يكون في جزيرة استوائية ما، ودرس الرجل محيط الباسفيك، وحصر مجال اختياره للجزر في جزيرة تمتاز بالعزلة والأمان والحياة الطيبة.

وفي آخر صيف عام 1939 ـ قبل أن يغزو الألمان بولندا بأسبوع واحد ـ هرب هذا الحكيم الاسترالي إلى ملاذه الأمين في جنوب الباسفيك... إلى جزيرة جواد الكنال، التي لا يكاد يعرفها أحد!

لا اعتقد أن ذلك الرجل كان «حاويا»، أو «ضارب ودع»، ولا كذلك سياسيا عبقريا واصلا، ولكنه «عاقل مجنون»، أو «مجنون عاقل»، ضربها «كيف ما جاءت» فأصابت.. صحيح أن وضع ألمانيا في ذلك الوقت كان مضطربا، وصحيح أن الكثير من قادة الاتجاهات فيها كانوا متذمرين من الاتفاقيات، ومن تقسيم الحدود الذي كان مجحفا بحق ألمانيا ووقعت عليها وهي مرغمة في معاهدة «فيرساي»، ولا أنسى أن الحرب المحدودة التي شنتها فرنسا وبلجيكا عليها في سنة 1923 للسيطرة على اقليم «الرور» الصناعي، كانت مؤذية ومهينة لألمانيا على جميع المستويات.. كل هذا صحيح ولكنه لم يكن ينبئ بقيام حرب وشيكة بأي حال من الأحوال، خصوصا أن العالم كله لم ينته بعد من تجفيف الدماء التي نزفت من الملايين، كما أن ألمانيا نفسها، وقبل نبوءة ذلك الرجل بعام واحد، قد وافقت وبدأت على جدولة وسداد الديون المفروضة عليها من تبعات وخسائر الحرب.. كما أن «هتلر» وحزبه «النازي» لم يفز بالانتخابات التي لم تجر أصلا إلا في سنة 1933، وبعدها أصبح مستشارا لألمانيا، وشكل حكومته التي أسماها: «الرايخ الثالث».. ومن ذلك الوقت «فعلا» وعلى مدى ستة أعوام، والعالم كله كان يتوجس قيام الحرب، وكل سنة يكون الهاجس والخوف اكبر، إلى أن وقعت فعلا في صيف عام 1939، بعد أن كان ذلك المتنبئ الجبان قد نفد بريشه، لقد كان بالعكس تماما من خالد بن الوليد، الذي كان يقول لأعدائه: جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.

ولو أنني كنت موجودا في ذلك الوقت بألمانيا، لتعلقت في رقبة المتنبئ قائلا له: خذني معك، أرجوك لا تتركني، فهوايتي الوحيدة في هذه الحياة، هي: «الحياة».