الانفصام القطري .. بين رؤية الأمير وأجندة الجزيرة

TT

لأول مرة تتاح لي الفرصة لسماع ورؤية أمير قطر، سمو الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني. جاء الأمير الى معهد بيكر للسياسات العامة وألقى كلمة حول دور قطر في القضايا الاقليمية والعالمية. تحدث فيها عن الاصلاح كمنهج لحكومته الجديدة نسبيا. وكان في معية الامير زوجته الشيخة موزة بنت ناصر المسند، ووزير خارجيته الشيخ حمد بن جاسم، وكذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعود آل ثاني، مدير شؤون الديوان.

كان ذلك الحدث ضمن جولة للامير شملت مؤسسة بروكنز في واشنطن، وكذلك زيارات اخرى لمؤسسات المجتمع المدني الأميركي. لافت للنظر ان الامير لم يلتق الرئيس بوش، وذلك لسوء العلاقة القائمة بين البيت الابيض وادارة بوش وبين دولة قطر. ويعزو الكثير من العارفين بالأمور هنا، سوء هذه العلاقة الى احتضان قطر لقوى التطرف المتمثلة في شخصية مثل الشيخ القرضاوي، الذي افتى بقتل الأميركان، وقوى البعث والاخوان المسلمين.

(كثير من العاملين بقناة الجزيرة في قطر)، واشدد هنا على حرف الجر «في»، فكل الاذاعات والمحطات تقول مثلا «صوت العرب من القاهرة» أو من الكويت، وهناك فارق شاسع بين حرف الجر «من»، الذي يوحي بان المحطة أو القناة نابعة من البلد ومتحدثة باسمه، وحرف الجر «في» والذي يوحي بأن القناة مزروعة في قطر لمصلحة آخرين، ولا تعبر عن الدولة، أو انها ليست نبتا اصيلا نابعا منها. وكانت في اجابة الامير على سؤال حول الجزيرة ما يوحي بذلك، اي انها «في قطر» وليست «من قطر».

جرأة الامير في الحديث عن الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كانت لافتة للنظر بالنسبة للحاضرين في تلك الجلسة الصغيرة، الذين لم يزيدوا على ثلاثين شخصية. رؤيته التقدمية كانت مصحوبة برمزية وجود زوجته الشيخة موزة في مقدمة الحضور، جالسة الى جوار زوجة جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي الاسبق، والى جوارها وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جبر آل ثاني، الذي بدا وكأنه منسق، حيث ترك مقعده للحظة وذهب الى المنصة، حيث يتحدث الامير، لافتا نظره لشيء ما اثناء وقت الاسئلة والاجوبة.

أكد الامير في هذا الحديث على ان قطر تتبع سياسة مستقلة، ورؤية تختلف عن باقي الدول العربية الاخرى، حيث قال: «ان قطر لا ترى ربطا بين الاصلاح وبين السلام»، فهي تقوم بالعمليتين بشكل منفصل، فهي تقيم علاقات طيبة مع اسرائيل وتصلح وضعها الداخلي في ذات الوقت. هذا على العكس من بعض الدول العربية الأخرى التي تحاول ربط قضية الاصلاح بقضية السلام. «نحن في قطر نفصل بين الأمرين»، هكذا قال. ولام الامير بعض الدول العربية على انها تتذرع بالصراع العربي ـ الاسرائيلي لتعطيل عجلة الاصلاح.

كان واضحا من كلمة الامير، وفي ردوده على الاسئلة، التي كتبت من قبل الحضور، وقرأها عليه مضيفه السفير ادوارد جرجيان، مدير معهد بيكر ومساعد وزير الخارجية السابق. قرأ جرجيان على الامير اسئلة دبلوماسية، لكنها كانت تخفي تحتها غضبا أميركيا من ناحية فتاوى القتل، واعطاء الامير فرصة أكبر للحديث عن برنامجه «لجعل قطر نموذجا» للاصلاح في المنطقة العربية. فالأميركان يراهنون على نموذجين، نموذج العراق للجمهوريات العربية، ونموذج قطر لدول الخليج.

وتمحورت معظم الاسئلة حول تناقض واضح في السياسة القطرية، اذ بدا واضحا للعيان ان الامير يمثل قوى المستقبل وقوى الاصلاح، لكن الامر المحير هو كيف لأمير المستقبل الاصلاحي، ان يحتضن في ذات الوقت قوى الماضي الظلامية المتمثلة في سيطرة الاخوان المسلمين والبعثيين على قناة الجزيرة؟ الجزيرة الحقيقية (دولة قطر) تدعو الى الاصلاح، وتدعو الى السلام، مع اسرائيل، وتحتضن قاعدة العديد، وكذلك الجنرال جون ابي زيد قائد القيادة المركزية الأميركية من مصر الى افغانستان، بينما تحتضن «جزيرة الصور» الشيخ القرضاوي، وأنصار ابو مصعب الزرقاوي؟!

الجزيرة الحقيقية على الارض تساند الأميركان، وجزيرة الصور تقاومهم. الجزيرة الحقيقية تصنع سلاما مع اسرائيل، وجزيرة الصور تدعو الى مقاومة اسرائيل. جزيرة الصور مع العرب بينما الجزيرة الحقيقية مع أميركا.

هذا التناقض بين الدولة القطرية والجزيرة، لا بد ان يحل. تناقض وصفه لي احد الحاضرين بأنه اشبه بحالة انطلاق المكوك الفضائي. والصورة لم تكن مستغربة بالنسبة لي، فنحن في مدينة هيوستن، التي فيها اهم مراكز مراقبة الرحلات الفضائية. قال محدثي «المكوك الفضائي له صاروخ اطلاق يدفعه الى خارج المجال الجوي، وفي لحظة محددة ينفصل الصاروخ عن المكوك، وهكذا وضع الجزيرة مع دولة قطر، ستوصل الدولة الى نقطة ما، وبعدها تنفصل الجزيرة عن الدولة، تنفصل جزيرة الصور عن الجزيرة الحقيقية».

لفت نظري التشبيه، فهو على عكس رؤيتي، التي كانت ترى بأنه بات لزاما على دولة قطر ان تخلق حالة انسجام بين سياسات الدولة وسياسة القناة، وهو امر بدا واضحا في التغييرات التي حدثت اخيرا داخل الجزيرة. لكن صاحبي الأميركي كان يراهن على لحظة الفصل بين الكائنين: الدولة والقناة.

ايا كانت الصورة، فإن التحدي الذي يواجه الامير الشاب اليوم هو خلق حالة من الانسجام بين رؤيته المتطلعة الى المستقبل، ورؤية الاخوان والبعثيين المتطلعة الى الماضي. خلق نوع من التوازن بين قوى الخراب في جزيرة الصور وبين قوى الاصلاح في الجزيرة الحقيقية.

كتبت للسفير جرجيان سؤالا واضحا حول هذه النقطة، معبرا عن اندهاشي برؤية الامير الاصلاحية، ومشاعره تجاه الأميركان وما رأيته في برنامج «الاتجاه المعاكس» في الاسبوع الماضي.

ففي الوقت الذي عبر فيه الامير عن محبته للأميركان كشعب ودولة في كلمته، كانت هناك اعادة لحلقة لفيصل القاسم تدعو الى قتل الأميركان، وذلك يوم 21 سبتمبر، فكيف للامير ان يعبر عن حبه للأميركان يوم 28 سبتمبر، في معهد بيكر، والجزيرة تدعو الى قتلهم يوم 21 سبتمبر. كيف للامير ان يعبر عن حبه للأميركان، بينما القرضاوي يفتي بقتلهم؟ بالطبع، لم يسأل السفير الامير هذا السؤال بوضوح، لكنه كان محور حديث جانبي آخر. غير انه اوضح الى وفد الامير ان هذه الهوة ما بين قوى المستقبل وقوى الماضي، قوى العمار وقوى الدمار، لهي التحدي الحقيقي للبرنامج الاصلاحي في قطر او من قطر.

تحدث الامير عن امور كثيرة مهمة، لكن ما اثار فضول الجمهور، هو فصل عملية السلام عن برنامج الاصلاح، وان قطر على عكس الدول العربية الاخرى لا تتذرع بالسلام لتعطيل الاصلاح، كما اثار قلقهم تلك اللحظة التي يتخلى فيها المكوك عن الصاروخ المصاحب، او لحظة انفصال الجزيرة عن قطر او انفصال قطر عن الجزيرة.

كان هناك قلق واضح من ان القوى الظلامية المسيطرة على الجزيرة الآن، ربما تنقض على مشروع الامير الشاب، وتحول الدولة الاصلاحية الى مشروع انقلاب ديني. فتوغل الاخوان في قطر بهذا الحجم، يمثل خطرا على الدولة وعلى القواعد الأميركية في قطر في ذات الوقت.

كسب امير قطر من جولته الاخيرة تعاطف بعض المعاهد البحثية مع رؤيته، لكنه لم ينجح في اقناع الادارة والبيت الابيض، وبقيت الابواب موصدة وربما الى حين.