لندن وامرأتان اختلطت بينهما الأوراق والمراحل

TT

سألتني محاورتي ما إذا كنت قد وجدت صعوبة في العيش والدراسة في بريطانيا كامرأة عربية، وما إذا كنت أفكر اليوم بإرسال ابنتي الى هناك لإكمال دراستها. وأثار هذا السؤال مقارنة لم تكن لتخطر لي ببال، بين وضع امرأة عربية في لندن في نهاية سبعينات أو بداية ثمانينات القرن الماضي، ووضعها اليوم في البلدان الأوروبية. واستعدت، وأنا أجيب على السؤال، ذكريات عزيزة على قلبي، حيث كان وجودي كامرأة عربية وحيدة في القسم الذي أدرس فيه، مناسبة للاطلاع على وقع بعض مزايا العرب وكرمهم وأدبهم وثقافتهم على الغربيين، وامتداحهم لسحنتهم السمراء وعيونهم السوداء الواسعة. ولأن اختصاصي كان في شعر الإنكليزي شيلي والحركة التشارتية، فقد كانت توجه لي الدعوات دائماً لحضور المؤتمرات التخصصية عن شيلي في غريغونا، جنوب ويلز، وفي نيويورك. وكان زملائي من مختلف البلدان الغربية، يعاملونني بمودة خالصة، ويحرصون على وجودي معهم، وعلى مساهمتي في الأبحاث والنشر. ولم أشعر يوماً ما أن لون شعري أو سحنتي أو انتمائي القومي أو عقيدتي الدينية أو السياسية، قد شكلت عبئاً عليّ، ولا حتى حجاب زميلتي التي كانت تظهر معي، أحياناً، بل كان مظهرنا المختلف بعض الشيء، مدعاة للتحبّب واللطف الزائد اتجاهنا. أجابت محاورتي: هذا صحيح، ولكني أشعر بالذعر والاشمئزاز وأنا أرى قطع الرؤوس واختطاف الأجانب الذين ذهبوا إلى العراق لمساعدة الشعب العراقي! أجبت، وما علاقة العرب والمسلمين بمثل هؤلاء الأشخاص، الذين انتهجوا أسلوباً لا يمتُّ إلى العرب والمسلمين بصلة، ولا يزيد البلدان العربية التي يعملون بها سوى الفوضى وفقدان الأمن؟! وهم بكل الأحوال، لا علاقة لهم بالدين الإسلامي السمح، أو بالقيم والأخلاق والثقافة العربية.

حين ارتسمت علائم الاستغراب على وجه محاورتي، شعرت بدقة أين يكمن التقصير اليوم، والذي يقود إلى مثل هذا الخلط الخطير بين العرب من جهة، وبين من ينفذّون أعمالاً مشينة على أرض عربية، وضدّ أهداف عربية، ويزهقون في الغالب أرواحاً عربية مسلمة بريئة، ومن ثمّ يحتسبون وكأنهم يمثلون العرب في مقاومتهم للاحتلال الأجنبي، وتنطلق الحملات الإعلامية والدعائية المغرضة، لتصفهم بأنهم إرهابيون ويمثلون العرب والمسلمين، ليبرّروا كلّ الحملات العنصرية الحاقدة الموجهة ضد العرب، من مصادرة أرضهم، وتخريب ديارهم، وقتل أطفالهم، واحتلال بلدانهم، وارتكاب مجازر حرب يندى لها جبين البشرية، ومصادرة حرياتهم في بلدان الاغتراب الأوربية والأميركية، وتعرّضهم لمظاهر العنف والعنصرية المعادية للعرب. وما المجزرة التي ارتكبت يوم الخميس 30 سبتمبر (أيلول) الفائت، بحق الأطفال العراقيين، والذين كانوا يلبسون أجمل ألبستهم ويتراكضون لاستلام الحلوى، وقد أتوا لحضور مناسبة، سوى حلقة في سلسلة من جرائم نكراء يرتكبها الحاقدون على ماضي ومستقبل هذه الأمة. ولا بدّ من التفريق تفريقا واضحا وصريحا، بينهم وبين أعمال المقاومة للاحتلال، والتي هي مشروعة وفق كلّ المواثيق والأعراف وفي كافة الأمصار والأزمان.

ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن الموقف الفاعل الذي اتخذته الجمعيات المسلمة في فرنسا وفي بريطانيا، لإطلاق سراح الرهينتين الفرنسيتين والرهينة البريطاني في العراق، كان موقفاً صائباً وضرورياً، يجب أن يتكرر من قبل المرجعيات المسلمة ضد الخطف وقطع الرؤوس وقتل العلماء والأطباء وأساتذة الجامعات في العراق. إذ لا يمكن لعربي حريص يؤمن بوطنه ومستقبل أمته، أن يرتكب مثل هذه الجرائم، لأنها لا تضعف الاحتلال، بل تصيب البلد الواقع تحت الاحتلال بالعجز والهوان، وتؤخر قدرته على المقاومة والتحرير. وقد أشارت مصادر عديدة في العالم، آخرها وزير الخارجية التركي عبد الله غول، إلى وجود عوامل خطيرة في العراق تهدد مستقبله ووحدة أراضيه، كما تعتبر تهديداً حقيقياً لدول الجوار ولمستقبل هذه الدول، ولا مصلحة للعراقيين أو السوريين أو الأتراك أو الإيرانيين في ذلك، بل إن هذا التوجه يمثل خطراً حقيقياً على نسيج الحياة وهويتها التاريخية، ليس في العراق وحسب، بل وفي دول الجوار أيضاً. ومن يقرأ مقابلة شاؤول موفاز في جريدة «يديعوت أحرونوت» الأربعاء الماضي، يكتشف من هم الذين يريدون لهذه المنطقة أن تتفتت على أسس عرقية ودينية وطائفية. ومن هم الذين يخشون عودة الأمن والاستقرار والازدهار إلى العراق كبلد عربي يمتلك من الطاقات البشرية والإمكانات المادية، ما يساعده على تحقيق حضور عربي وإقليمي ودولي. بالطبع ليس أبناء العراق المؤمنون بعراقهم من يخشون نهوض العراق وازدهاره واستقلاله... ولا أبناؤه الحريصون على التخلص من الاحتلال والعيش بحرية وكرامة، وبالتأكيد ليس جيرانه من الأشقاء في القومية والدين والتاريخ. الصورة واضحة ولا تحتاج إلى تفسير، لأنه، بالإضافة إلى بعض الأجانب الذين تركز عليهم الصحافة الدولية، وتنهض الجهود الإعلامية والسياسية لتركيز الضوء عليهم، فإن أطفال العراق ونساءه وعلماءه هم الذين يقعون ضحايا تلك الجرائم، التي يخطط لها أعداء العروبة والإسلام، بغض النظر عن الأخبار التي يبثونها عن انتماءاتهم وأسمائهم.

لا يمكن، حتى للمشاهد العادي، أن يتجنب مقارنة الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين الأبرياء في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة الأطفال والنساء منهم، بتلك التي ترتكب بحق المدنيين الأبرياء في العراق، وخاصة الأطفال والنساء منهم. ففي الحالتين ترتكب هذه الجرائم من قبل من يستهدف هذه الأمة العربية وينصب لها أشد ألوان العداء. فلماذا يقصر العرب والمسلمون غالبا، في تبرئة عروبتهم وإسلامهم من مثل هذه الأعمال في الإعلام العالمي وعلى الساحة الدولية، وإيضاح الفروقات الجذرية بين مثل هذه الأعمال وبين المقاومة المشروعة التي تهدف إلى تحرير الأرض والإنسان؟

إن خلط الأوراق حول ما يجري في منطقتنا، وصل مرحلة خطيرة أخذت تؤثر على حياة كل عربي أينما حل في أرجاء المعمورة. لذلك لا بد من وضع منهجية واضحة للإعلام العربي، تستند على مرجعية واضحة للحق العربي، تدافع عنه أولاً من خلال تخليصه من التشويه المقصود الذي يحاول بعض أعدائه إلحاقه به، من أجل إنزال المزيد من الضعف والإحباط في الجسد العربي، وممارسة المزيد من تشويه السمعة العربية في نظر العالم. إن التصريح الأخير لوزير الخارجية البريطاني، جاك سترو، خلال مؤتمر حزب العمال في بريطانيا، هام جداً، وكان يجب أن يتصدر وسائل الإعلام العربية، لأنه يفصل بين الإسلام كدين حنيف وتعاليمه السمحة من جهة، وبين ما يرتكبه البعض باسمه وما يلصقونه به من جهة أخرى، وهذه نقطة هامة جداً لا بد من التركيز الشديد عليها في هذه المرحلة، لما فيه خير العرب والمسلمين في ديارهم وفي البلدان الأخرى التي انتسبوا إليها كمواطنين. فالصمت الإعلامي والرسمي العربي تجاه أعمال الإرهاب، أدى إلى تفاقم الخطر الدولي على الحق العربي، ويؤدي اليوم إلى اتساع سوء الفهم المقصود للثقافة العربية وللدين الإسلامي وتعاليمه الإنسانية في الحرب والسلم، وفي جميع الأحوال يؤدي إلى المساهمة في إنجاح خلط الأوراق بين الإرهاب والمقاومة وما يحمله هذا الخلط من تبعات خطيرة على مستقبل شعبنا و أمتنا.