ملتقى للثقافة والارتقاء بمستوى الوعي

TT

تابعت بكل اهتمام المحاور التي طرحت امام الملتقى في الرياض، وجميعها تصب في خدمة بلورة وعي ثقافي يواكب المتغيرات وعملية التنمية التي تسير بخطى واثقة لما فيه خير المجتمع وترقيته. اذ ان هذه العملية التنموية المستدامة، تظل منقوصة ما لم تواكبها مثل هذه الاستراتيجية، التي يتوقع ان يرسم معالمها هذا الملتقى.

لعلي اساهم في تسليط الضوء على جزئية واحدة بالغة الاهمية لتكتمل حلقة هذا الحوار، اعني بذلك استراتيجية خاصة تهدف الى رفع مستوى الوعي الثقافي العام لدى النشء.

ولكي ندرك ابعاد هذا المطلب، لا بد ان نسلط الضوء على هذه الظاهرة التي اضحت ـ للأسف ـ سمة بارزة من سمات هذه الحقبة المشحونة بالمتغيرات واتساع مساحة الخلل، ما بين الوعي الثقافي في مجال (المعلومات العامة) وملاحقة التطورات العالمية المتسارعة، في ظل النظام العالمي الجديد والعولمة، واكتساح (المعلوماتية) لنمط الحياة الحديثة، خاصة في الدول والمجتمعات المتقدمة التي استفادت بهذه الانظمة المتطورة، لتواكب التطور الاقتصادي والصناعي والعلمي.

من هنا تجيء أهمية رفع المستوى الثقافي والوعي لدى النشء، واصلاح الخلل الحاصل لدى شريحة كبيرة ومهمة من شبابنا، وأرجو الا أكون (جارحا) في صراحتي هذه عند تناولي لهذا الموضوع لأن الأمر يحتاج الى وقفة مصارحة صادقة وموضوعية من دونما أي حساسية من لدن ابنائنا الشباب، ونحن بصدد مراجعة النفس والحوار البناء من أجل مجتمع معافى يتلمس عيوبه ومشاكله، ويعمل على اصلاح الخلل الذي تعرض له المجتمع خلال حقبة التحول والتغيير هذه.

ولكي أكون أكثر وضوحا في ما عنيته من تدني المستوى الثقافي العام لدى الكثير من النشء، أود ان أورد بعض الأمثلة على هذا التدني أو القصور في (المعلومات العامة).

1 ـ لو أجرينا احصاء لدى قطاع الشباب، لوجدنا ان قلة محدودة تقرأ الصحف اليومية والمجلات، أو تتابع نشرات الاخبار في الاذاعة والتلفاز، وكذلك البرامج الجادة ذات الاهمية (المعلوماتية) أي التي تشكل مصدرا ثريا للمعلومات العامة ومواكبة ما يدور حولنا وفي مختلف انحاء العالم، حيث انحسر هذا الاهتمام لصالح البرامج الترفيهية بكل مشتقاتها، لا سيما في المحطات الفضائية التي غزت مجتمعاتنا بما تبثه من غث وسمين، فانصرف معظم شبابنا عن متابعة البرامج الأخرى ذات المنفعة واثراء المعلومات العامة، التي اضحت هذه الفئة من الشباب تفتقر اليها. وللانصاف، يمتد ذلك الى فئة أخرى من الآباء ومتوسطي العمر الذين انجرفوا بدورهم وراء هذه الموجة الجديدة فسرى (الداء) الى معظم أفراد الاسرة.

2 ـ انغماس الكثير من هؤلاء الشباب في ظاهرة (الإنترنت) وجلسات (الحوار أو الشات)، التي تدور عبر الإنترنت، الذي تم اختراعه اساسا لكي يكون مصدرا ثريا للمعلومات العامة والثقافة، وليس مجالا خصبا للترفيه غير المفيد، ان لم يكن الضار، مما ساعد على انحراف البعض وصرف الوقت وانهاك الذهن في متابعة المواقع الكثيرة المشبوهة، مما ادى الى انخفاض معدلات النجاح وتكرار الرسوب في الامتحانات وانخفاض مستوى التعليم بشكل ملحوظ.

3 ـ ادى انصراف الشباب عن القراءة بكل انواعها، لا سيما (الكتاب) الى حدوث قصور فادح في المعلومات العامة أو المشاركة الفكرية من النتاج العالمي الفكري، اذ ان من المسلم به ان معيار المستوى الثقافي لأي شعب يتوقف على عدد ما يقرأه كل فرد من كتب خلال عام واحد، وما يصدره كل بلد من كتب، وللأسف الشديد يجيء العالم العربي في ادنى القائمة.

4 ـ البرهان على ذلك هو ما نلمسه بوضوح عند مناقشتنا لفئة الشباب هذه لأي شأن من الشؤون الدولية، أو الاحداث العالمية، أو حتى العربية. فهناك جهل بالمنظمات الدولية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ومؤسسات العمل الانساني، رغم اننا جزء من هذا العالم وعضو فعال في المجتمع الدولي. هناك جهل بالمعلومات الجغرافية البسيطة، ومواقع الدول، واسماء رؤساء الدول الكبرى، أو الدول العربية وأعضاء الجامعة العربية أو الاسماء البارزة في مجال السياسة والآداب والفكر والابداع الانساني ـ اضافة الى النقص الفادح في المعلومات التاريخية العربية أو الاسلامية الدولية، القديم منها أو الجديد.

5 ـ انحسار التواصل بين جيل الآباء والجيل الجديد الذي وصل الى حد ما يشبه (القطيعة)، الامر الذي أدى الى حرمان هذا الجيل من مصدر ثري للمعلومات والثقافة العامة. لقد كانت مجالس الآباء أو الاخوة الاكبر سنا منهلا لهذه الثقافة والمعرفة والمعلومات العامة، والتزود بالحكمة، والاستماع لتجارب الآباء وخبرتهم في الحياة. للاسف حدثت (القطيعة) بين جيل الآباء والجيل الجديد بسبب الميل للاستقلال والانكفاء على معين العلاقات الاجتماعية والانسانية ما بين ابناء الجيل الواحد.

تلك نماذج مما عنيته بتدني مستوى الوعي الثقافي العام لدى (بعض) النشء كي لا اقول (معظم) الشباب. ومعذرة لهذه المصارحة، فالأمر يتطلب ايلاء هذه (الظاهرة) الاهمية التي تستحقها كي تكتمل حلقة البحث في وضع الاستراتيجية المزمع رسمها لمجتمع جديد نتطلع جميعا للارتقاء بمستواه الثقافي، بما يتفق والنهضة الشاملة التي يعيشها الوطن، وكي يحدث التوازن المطلوب لشمولية هذا التطور مختلف نواحي الحياة، اي انماء اقتصادي جنبا الى جنب مع النماء الثقافي والفكري واشراك الجيل الصاعد في عملية التنمية هذه بكل جوانبها.

* السفير السعودي السابق لدى لبنان