الخلاص من الحالة الاستثنائية!

TT

عندما انتهت الحرب العالمية الأولى بما انتهت إليه من هزيمة لألمانيا وحلفائها، دار جدل داخل الساحة الألمانية السياسية بين مدرستين: الأولى قالت بأن سبب الهزيمة هو نظام القياصرة الألمان، الذي أبعد الديمقراطية والتسامح عن الشعب الألماني، وقاده من خلال الشعبوية القومية، إلى حرب لم تكن هناك إمكانية لكسبها. والثانية قالت ان سبب الكارثة يعود إلى أن الأمة الألمانية هى أمة مستهدفة طوال حقبة تاريخية، من قبل كل القوى العالمية الأخرى التي تكالبت عليها، بسبب خصالها الآرية المتميزة. وبينما قادت المدرسة الأولى إلى جمهورية فيمار الديمقراطية الليبرالية، فإن المدرسة الثانية قادت إلى الجمهورية الوطنية الاشتراكية التي اعتمدت المدرسة النازية في الحكم. وما بين عام 1919 عند نهاية الحرب، وحتى عام 1933، عندما جاء هتلر إلى الحكم، قام المجتمع الألمانى على التسامح مع الأقليات، وتنمية المجتمع المدني، وحرية الأحزاب والتعبير وتداول السلطة. أما ما بين عام 1933، عندما جاء الحكم النازي في أعقاب حريق الريشستاغ، وعام 1945، عندما انتهت الحرب العالمية الثانية بالواقعة الأعظم للهزيمة، وتقسيم الأمة والدولة الألمانية، كانت كل طاقات التعبير والمشاركة السياسية والقبول لليساريين والأقليات والأجناس الأخرى قد انتهت، وزج بالجمع السياسي في ألمانيا إلى واحد من أبشع المعتقلات التاريخية.

أسباب ما جرى في ألمانيا ليست موضوعنا، ولكن ما يهمنا أن الأمم الحية في العادة تطرح أسئلة وإجابات متشابهة في لحظات الهزيمة والضعف واكتشاف التخلف والتراجع. وفى الصين جرى أمر من هذا مع ثورة صن يات صن، ثم مع ثورة ماو تسى تونج، وأخيرا مع مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في عام 1978. وفي روسيا جرى ذلك وبقسوة شديدة، بعد الحرب العالمية الأولى ومع قيام الثورة البلشفية، ومع مطلع التسعينيات بعد انهيار حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي. وبنفس الطريقة كان الموضوع مطروحا على الهند طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى توصلت إلى معادلتها الراهنة في الاقتصاد والحكم.

وبالطبع، كان القياس مع الفارق في كل الحالات، ولكن قانون التحدي والاستجابة كان واحدا، وكان الرد واحدا من اثنين، إما أن المشكلة والمعضلة وأسباب التخلف كامنة في الأمة وعليها أن تواجهها بشجاعة حتى تتقدم وتنافس وتكتسب المكانة، وإما لأنها أمة مستهدفة بسبب تفوقها الأخلاقي والتاريخي من قبل مجموعات من العفاريت والجان والذين يستخدمون مجموعات متنوعة من الخونة الذين يطعنون الأمة في الظهر ساعة القارعة. الأولون قالوا ان الأمة المعنية هي جزء من تاريخ التقدم البشري، يصدق عليها ما يصدق على غيرها من القوانين الطبيعية والاجتماعية، والآخرون قالوا ان الأمة هي حالة خاصة، بل بالغة الخصوصية، ولا يصدق عليها ما يصدق على غيرها من القواعد بسبب تفردها وتميزها الذي يجعلها حالة استثنائية من الجغرافيا والتاريخ.

أمر من هذا جرى في العالم العربي طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولا يزال معنا في القرن الواحد والعشرين. فبرغم اختلافات وتنويعات كثيرة في الفكر العربي السياسي والاجتماعي، فإن مدرسة قامت تقول بأن أسباب التخلف العربي السياسي والاقتصادي والاجتماعي كامنة في الأمة وبقائها بعيدا عن العلم والتاريخ، ولذا فإن «إنقاذها» سيكون بعودتها إلى المسيرة العالمية بقوانينها وقواعدها. وفى مواجهتها قامت مدرسة أخرى ركزت على الحالة الخاصة والاستثنائية للأمة والتي جعلتها مطمع القوى الخارجية، ولذا فإن الخصوصية والاستثنائية هما اللتان ستقودان الأمة إلى «الخلاص» وابتكار قواعد وقوانين خاصة بها.

ولو كان بالمساحة متسع لذكرنا أسماء وأعلاما ووقائع كثيرة في التاريخ العربى تنتمي إلى كل من المعسكرين، ولكن الذي يهمنا في هذا المقام، هو نظرة كلا المدرستين لتاريخ الأمة باعتبارها الخطوة الأساسية لبناء المستقبل. وفى المدرسة الأولى، سوف نجد محاولة لإعادة الأمة إلى العلم والتاريخ مرة أخرى، وبهذه الطريقة فإنها تستطيع الحفاظ على ثوابتها التي تحافظ عليها كل أمم العالم ـ مثل الحفاظ على التكامل الإقليمي للدولة ـ وتحقق التقدم المادي والمعنوي وفق ما توافقت عليه أمم العالم. أما في المدرسة الثانية فسوف نجد حفاظا مستمرا على حالة استثنائية من التقدم المستمر الذي لا يقطعه أمر سوى مطامع ومؤامرات القوى الخارجية التي تتوجه نحوها من دون غيرها من أمم وشعوب الدنيا.

وسوف يظل النظر إلى القرون الثلاثة ما بين القرن الخامس عشر والثامن عشر مهما في الاحتكام لصدق المدرستين حينما دخل العالم العربي في سبات وتخلف عميق، فوفقا للمدرسة الأولى، فإن فترات التخلف والتراجع أولا من الأمور الطبيعية في حالات الأمم، وثانيا ان الغياب الكامل تقريبا للعنصر الخارجى، يقطع بأن أسباب التخلف داخلية بالأساس وتكمن في البنية الفكرية والفلسفية التي قامت عليها نظم الحكم والاقتصاد وإدارة الشؤون العامة. أما المدرسة الثانية، فإنها مصممة على أن هذه الفترة من التاريخ العربي لم تكن تعني موتا في الجسد، بل انه كان ينبض بالحياة، ولو ترك لحاله من قبل الغرب الذي أحضر إلينا الدولة القومية وحدودها المجزأة، ونظم حكمها، وتقنيتها، وأفكار حرياتها العامة، لكانت قد قامت ونهضت كما ينهض طائر العنقاء من الرماد بأفكار وابتكارات ونظم حكم وتقنيات تقود العالم إلى الهداية والخلاص في الدنيا والآخرة.

هذا الاحتكام لهذه القرون الثلاثة الحاسمة في البحث عن أصول وأسباب التخلف والهزيمة، وليس لنقض الهوية والمرجعية والذاتية القومية، هو الأمر الذي يحتاج لمراجعة فاحصة. فما قال به العلامة محمود شاكر في مقاله «الطريق إلى ثقافتنا»، والمعتمد الوثيقة الرئيسية لدى كهنة المدرسة الثانية، كدلالة على أن علامات النهضة كانت موجودة داخل الجسد العربي وجاء الغزو الاستعماري ليجهضها، ربما يكون الشهادة الأساسية على سلامة موقف المدرسة الأولى! فما جاء به عن البغدادي وابن عبد الوهاب والمرتضى الزبيدي والشوكاني والجبرتي الكبير من أعلام القرنين السابع عشر والثامن عشر، لا يمكن قياسه إلا بالمقارنة مع ما جرى في أوروبا في ذات الفترة، عندما كانت أفكار كوبرنيكس وجاليلو الثورية في العلم الطبيعي، ومونتسكيو وهوبز ولوك في الأمور السياسية، وساعتها سوف نكتشف أن الفارق لم يكن يقل فداحة عن الأحوال الراهنة في عصر السفر بين الكواكب.

ولكن القضية ليست الفارق في الأفكار السياسية والعلمية ومدى شيوعها، وإنما في النوعية والتأثير، وربما كان البغدادي صاحب «خزانة الأدب»، مجدا في سعيه نحو تذوق الشعر واللغة، ولكن ذلك لم يحدث على المستوى العام حتى جاء الغرب بالمطبعة إلى العالم العربي لكي تمكن طباعة وقراءة كتاب. والحقيقة أن ذلك لم يحدث بشكل جوهري حتى جاء البارودي، ومن بعده شعراء المهجر والعقاد وشوقي، وكلهم هذبوا اللغة العربية وآدابها بفعل الاحتكاك والتعرف على الأدب الغربي، ومعرفة الصحافة والإذاعة وكلها فنون غربية.

ويمكن السير على نفس المنوال مع البقية، فما يجرى الآن، جعل الحاجة إلى الإصلاح واللحاق بالعصر ملحة حتى بعد قرون من الدعوة. والبقية من الزبيدي والشوكاني والجبرتي الكبير، كانوا جميعا في أمور اللغة والدين، ويعملون في ساحة ضيقة للغاية، من القادرين على القراءة والكتابة. وببساطة شديدة لم يكن أي منهم ملهما للعصور التالية في شؤون العلم أو الحكم، وذلك هو فصل المقال.