في قرطبة، عند ابن زيدون وجهان من الجزائر والبوسنة

TT

لانني لم اذهب مرة الى الجزائر، فقد تعرفت الى الدكتور احمد طالب الابراهيمي في مدينة ما، قبل ثلاثة عقود. ولم يكن يمِّر وقت دون ان التقيه، في منفى ما، او زيارة ما، او عمل ما. لكن الآن مرت سنوات عدة لم تشرفني الصدفة. لا في جنيف ولا في باريس ولا في لندن. وها هي قرطبة تجمعنا. ولا ادري ماذا وكم لاحظ الدكتور الابراهيمي من السنين في ملامحي. لكن سنوات العمر تمر على الجميع. وهذا المناضل القديم يرفض ان يستريح. وقد سألت الدكتور محيي الدين عميمور، ماذا يفعل الدكتور احمد الآن؟ أي تحالف يطلب؟ أي حلف سياسي يريد ان يقيم؟ أي معركة انتخابية يريد ان يخوض؟ ولم اكن مبالغا. رجل «جبهة التحرير» تقدم بطلب للحصول على رخصة في انشاء حزب سياسي! ايضا؟ نعم، ايضا ـ بعض الرجال يولدون في العمل الوطني، ولا يكفون ولا يتوقفون. وامضُّ الصراعات هو صراع الرفاق. وقد فقد عبد العزيز بوتفليقة الشعر الذي كان يسدله على كتفيه مثل شعراء فرنسا، واشعل الشيب مفرق الابراهيمي، وذهب التاريخ الى التاريخ، والرفاق لا يتهادنون.

سياسي آخر مضى زمن لم اره. فقد تعرفت الى حارس سيلاديتش قبل ان يصبح اول وزير خارجية للبوسنة المستقلة ورئيسا للوزراء. ثم التقيته وزيرا في الامم المتحدة. وفاجأني منذ اللحظة الاولى كمستعرب ومتابع. وكانت له تعليقات حول مشاهدات كتبها بعض المعلقين عن رحلة في يوغوسلافيا قبل سقوطها. وحدثني سيلاديتش المستعرب عن البوسنة وسراييفو والمخاوف، قبل الانفجار بكثير. وربما بسببه بدأت مبكرا في قراءة تواريخ الجمهوريات اليوغوسلافية. وكانت المرة الاولى التي التفت جيلنا الى تعقيدات النسيج اليوغوسلافي ومآسيه عندما فاز ايفو اندريتش بنوبل الآداب على روايته «جسر على نهر درينا» اوائل الستينات.

وعندما انفجرت يوغوسلافيا من جديد ورمى البلقان حممه مرة اخرى اواخر القرن العشرين، رحنا نتابع المذابح والمحارق وهدم الجسور، وكأننا نقرأ في روايات اندريتش، او في الشعر الشعبي والحكايات التي تحدث عنها حارس سيلاديتش.

ينصرف حارس سيلاديتش الآن الى التدريس الجامعي، مزودا خبرة هائلة من التجارب الدبلوماسية وثقافة واسعة من اللغات وحضاراتها، بينها العربية والتركية. ولا يمارس التعليم والمحاضرات والمشاركة في المؤتمرات كمهنة، بل كدعوة. ولذلك رفع في مؤتمر الحوارات الذي تعقده مؤسسة عبد العزيز البابطين، شعار التفاهم الحضاري وهو يجر خلفه واحدة من اعمق التجارب الانسانية في التاريخ المعاصر. ويقول سيلاديتش ان كرامة الانسان كمخلوق بشري هي اهم اولوية على الارض. واذا اراد المسلم او المسيحي او البوذي ان يكون قاتلا، فالافضل له الا يصلي، لان في ذلك ضياعا للوقت لا معنى له.

قد تكون للمحاضرات والمداخلات في مثل هذه المؤتمرات اهمية خاصة. لكنني اكرر دائما ان اهم ما فيها هي اللقاءات مع المشاركين. والفرص التي توفرها لان نلتقي احيانا ما قد لا توفره الصدفة في حالات اخرى. وهنا في قرطبة منحنا الملتقى لقاءات ثمينة مع مفتي الديار المصرية ووزراء الاعلام والتربية والثقافة في الكويت والسودان وموريتانيا واساتذة وشعراء وشاعرات، وخصوصا ذلك النوع المرتقي من الاندلسيين، البحاثة والمؤرخين الاسبان.