بين الأحمر والأخضر والفلسفة

TT

اتصل بي احد المعارف، وقد عاد لتوه من الصين، فلما سمعت صوته عبر الهاتف بادرته متهكما ـ كالعادة: هاه (جبت الديب من ديله)، وإلا (رجعت بخفي حنين)؟! قال لي: لا هذه ولا تلك، وإنما عدت بحصيلة وافرة من المعلومات والانطباعات، التي لو مكثت عدة أعوام ولم اذهب إلى ذلك المكان فلن أتحصل عليها.

وبما أن ذلك الصديق الذي أتحدث معه، يحاول أن يتعاطى التجارة، ويدخل من أي باب من أبوابها، حتى لو كان أصغرها، وذلك لكي يسد رمقه، أو حنكه، لهذا فهو أتعب وأشقى نفسه بالذهاب إلى الصين، لا إلى طلب العلم كما هو مذكور في الأثر الشريف، ولكن إلى طلب (البزنس)، غير أن (البزنس) في الواقع أصبح قمة العلم في هذا اليوم، لأن كل العلوم والمعارف تصب في النهاية في خدمته، وفي خدمة (المصاري)، التي هي دمه ومحركه.

وكان الرجل مذهولا من (شنغهاي) والذي يحصل فيها، ومذهولا من التشييد والبناء والاستثمارات، والشركات الأجنبية التي تتهافت على ذلك السوق الهائل، وكيف أن تلك البلاد قد خطت خلال عشر سنوات، خطوات لا تخطر على البال.

طبعاً لا يمكن أن نغفل (الثورة الثقافية) لماوتسي تونغ، وما أحدثته من دمار، وتجمد في البلاد كلها، وما أحدثته من تشتت أيضا، والإنسان الصيني عملي وديناميكي بطبيعته، لهذا فكل الذين هربوا من تلك الثورة، سواء في تايوان، أو سنغافورة، أو ماليزيا، أو حتى في أمريكا، استطاعوا أن يتحكموا، ويرتقوا، ويحققوا الثراء السريع.

ويقال إن صينيا ذهب إلى أمريكا في هذه الأيام، وعند العودة أراد أن يشتري هدية لأهله، وكلما أعجبته قطعة وتفحصها وجد أنها مصنوعة في الصين، عندها قرر ألاّ يشتري.

ولو أن الصين قد سلمت من تلك (الأربعين سنة) التي جثم فيها (الكتاب الأحمر) على صدرها، لكانت اليوم على قمة الهرم العالمي، وهناك احتمال أنها ستبلغه يوما ما.

المشكلة التي تواجه الدول والشعوب عبر تاريخها هي: المراهقة الفكرية والنفسية لبعض الزعماء، فتصبح بلادهم حقل تجارب لنزواتهم، وبعد أن تتضح النتيجة تكون (البصرة) قد خربت، فمن (الكتاب الأحمر)، إلى (الكتاب الأخضر)، إلى (فلسفة الثورة)، أو (الميثاق)، أو (مادري ايش)؟! مع كل تلك الشعارات الحمقاء، فبلادهم تمشي (على ورا) بينما شعوب وبلاد ليس لديها أي كتاب أو فلسفة (همايونية) تسير (إلى الأمام والى الأعلى).

في إحصائية موثقة: انه في عام 1945، ازداد نشاط مجموعة بنك مصر، وبخطة طويلة الأمد للنهوض بقطاعات العمل في مصر، واخذ يعطي (البنك) بصورة منتظمة سلفات للمؤسسات الصناعية، واستطاعت البلاد أن تؤمن حاجتها (الداخلية بالنسب التالية: السكر (100%)، الكحول (100%)، السجائر (100%)، الملح (100%)، الصابون (90%)، البيرة وأعواد الثقاب (75%)، الدقيق (99%)، خيوط القطن (96%)، الأحذية (90%)، الأسمنت (90%)، المفروشات (50%)، الزيوت النباتية (60%).. وقفز توظيف الأموال من 86 مليون جنيه إلى 147 مليونا، وكان الجنيه المصري آنذاك يساوي جنيها إنجليزيا ذهباً، وكانت بريطانيا مديونة من مصر بأكثر من خمسمائة مليون جنيه ـ. فماذا كان سوف يكون عليه حال مصر اليوم لو أن تلك الوتيرة العاقلة استمرت في طريقها ولم تعترضها التجارب والمغامرات ـ أو بمعنى اصح ـ: (المقامرات)؟!