حرب وقائية أم عدالة وقائية؟

TT

نحن مهمّون بالطاقات الكامنة في أعماقنا، بالاحتمالات الممكنة التي لم تتفجّر، أو لم تتحقق بعد. نحن مهمّون لأننا نعيش المرحلة السلبية من تاريخنا، مرحلة تفريخ المكبوت الذي ينفجر كما تنفجر البراكين من أعماق الكرة الارضية، وذلك قبل أن نتوصل إلى المرحلة الإيجابية التي لم تظهر بشائرها بعد. على هذا النحو، أفهم الحالة التاريخية التي نعيشها حالياً، والتي هي شديدة القلق والاضطراب والارتجاج، لكن لا ينبغي أن تغشّنا المظاهر فتحت الأعماق ما تحتها، وهناك أشياء كثيرة تختلج تحت السطح، ونحن نراهن عليها.

لكن هذا النور العظيم الذي نسعى إليه بكل قوانا، والذي نترقبه بكل أفئدتنا ومشاعرنا، لن ينبثق إلا إذا قبِل الغرب بإغلاق الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي نهائياً.. كيف؟، عن طريق وضع حد للسياسة التوسعية والإجرامية لأرييل شارون، وإعطاء الفلسطينيين بعض حقوقهم الوطنية والإنسانية. قد يبدو كلامي هذا مدعاة للسخرية في وقت يوغل فيه شارون في التقتيل والذبح والاجتياح.. لكن هنا ايضا ينبغي ألا نستسلم للمظاهر والاحداث الآنيّة، إنما ينبغي أن نموضع الأمور ضمن منظور تاريخي طويل. أكتب هذه الكلمات وتحت بصري بيان نشرته جريدة «اللوموند» الفرنسية، تحت عنوان «صوت يهودي آخر».. وقد وقّع عليه حوالي الألف شخص ومثقف يهودي، وهم يدعون فيه إلى الوقف الفوري للسياسة الإجرامية لشارون، هذه السياسة التي تدفع بالشعب الفلسطيني إلى اليأس المطبق والخطير، ثم يقولون بالحرف الواحد: «نحن ننتفض بقوة ضد القمع الكولونيالي أو الاستيطاني الذي تعاني منه فلسطين والفلسطينيون من جراء أعمال حكومة إسرائيل، ولا نعتقد بإمكانية محاربة نزعة معاداة اليهود (أو معاداة السامية)، إذا ما تحول الإسرائيليون إلى شعب قامع يضطهد الآخرين».

ثم ينبّه الموقعون الذين يمثلون الضمير اليهودي الحر والعقلاني، إلى خطورة السياسة التي يتبعها بوش وشارون في المنطقة، ويقولون: «يزعمان بأنهما يحاربان الإرهاب، لكن سياستهما تغذّيه باستمرار».

وهنا نصل إلى بيت القصيد في الواقع، فالمثقفون الغربيون من يهود أو غير يهود، يطالبوننا نحن العرب باستمرار بمحاربة الأصولية وتغيير برامج التعليم وإجراء الإصلاحات، لكنهم في ذات الوقت يغضّون الطرف عن أعمال شارون التوسعية والعدوانية داخل فلسطين. وهم بذلك، يقعون في تناقض صارخ ويفقدون كل مصداقيتهم، كما نبّه إلى ذلك بحق هذا الصوت اليهودي والإنساني الآخر. ونحن لا نقول أكثر مما قالوه في هذا البيان، لكن تقتضي الأمانة القول بأنهم أدانوا أيضاً العمليات الانتحارية التي تحصل داخل المدن الإسرائيلية وتصيب المدنيين العزّل، فمن يستطيع أن يلومهم على ذلك؟

مهما يكن من أمر، فإن الأوضاع تراوح مكانها بسبب إصرار المتطرفين من كلتا الجهتين على مواقعهم، فالذين وقّعوا هذا البيان يمثلون أقلية، على الرغم من كثرتهم، وهم يشعرون بأنهم محاصرون من قِبل المؤسسات الطائفية التي تزعم أنها تمثل كل اليهود في فرنسا، مثلما نشعر نحن المثقفين العرب الليبراليين بأننا محاصرون من قِبل شيء مماثل في الجهة العربية أو الإسلامية. لهذا السبب، فإن الحل مفقود أو مؤجل إلى ما لا نهاية. لذا، ينبغي أن يفهم الغرب بكل قادته السياسيين والثقافيين، من بوش إلى شيراك إلى بلير، ومن برنار لويس إلى صموئيل هانتنغتون وفوكوياما وبرنار هنري ليفي واليسكندر ادلير وعشرات غيرهم، ان التنوير لن ينتصر في العالم العربي ما دام شارون مسيطراً والجرح الفلسطيني والعراقي نازفاً، وبالتالي فلا داعي للمراوغة أو المداورة: إذا كانوا فعلاً يريدون ليس فقط القضاء على الإرهاب، إنما أيضاً تقليص حجم التعاطف الشعبي معه، فإن عليهم ان يغيروا سياستهم في المنطقة. اننا نفهم رد فعل الرئيس بوش على ضربة (11) سبتمبر، التي أصابته في الصميم، لكن رد الفعل لا ينبغي ان يستمر إلى الأبد، حتى لو قتل مائة الف إرهابي أو متطرف، فإن الأوضاع المتردية الحالية سوف تنتج مائة ألف أو ربما مائتي ألف مكانهم مباشرة!. وبالتالي، فإن جهوده كلها سوف تذهب سدى، وسوف يحصد الريح والخيبة في نهاية المطاف.

لذلك قلت أكثر من مرة، بأن بن لادن هو الحليف الموضوعي لشارون، والعكس صحيح جداً، وبالتالي، فليكف قادة الغرب عن لومنا بسبب انتشار آيديولوجيات الثأر والتطرف في صفوفنا.

وبالتالي، فقد آن الأوان لكي ينتقل جورج دبليو بوش من سياسة الحرب الوقائية إلى سياسة العدالة الوقائية، وهذه المسألة لا تنطبق فقط على فلسطين، وإن كانت هي الأكثر إلحاحاً واستعجالاً، إنما تنطبق أيضاً على قضايا أخرى عديدة كالفقر في العالم، والجهل، والأمية، والمرض، وانهيار مؤسسات الدولة، أو حتى انهيار الدولة ككل في مناطق عديدة من العالم العربي والإسلامي ودول الجنوب بشكل عام.

يقول «بنيامين باربير»، الذي يدين العولمة الأميركية الجائرة مثلما يدين الأصولية المتزمتة، إن أسباب انتشار الجريمة في أميركا تعود إلى ترك مقاعد الدراسة من قبل أبناء الأحياء الشعبية الفقيرة، وهذا ما أثبتته الإحصاءات واستطلاعات الرأي العام أخيراً. فمعظم المساجين هم طلاب سابقون فاشلون، وهنا تنطبق مقولة فيكتور هيغو: كلما بنينا مدرسة أغلقنا سجناً. وتثقيف المساجين داخل السجن، أصبح افضل وسيلة لكيلا يعودوا إلى عادتهم القديمة بعد خروجهم من السجن، هذا ما أجمع عليه كل علماء التربية في أميركا وأوروبا وبقية الدول المتحضرة. وما نقوله عن انتشار الجريمة في المدن الأميركية، يمكن أن نقوله عن انتشار ظاهرة الإرهاب الأصولي في العالم العربي والإسلامي، فهنا ايضا يلعب الجهل دوره، كذلك الفقر والبطالة وانسداد الآفاق، هذا من دون أن ننسى بالطبع دور برامج التعليم المتزمتة التي تلقّن للتلاميذ تلقيناً منذ نعومة أظفارهم، وكأنها حقائق!.. نقول ذلك ونحن نفكر بالمدارس التي خرّجت الطالبان مثلا في باكستان. ثم يردف المفكر الأميركي الليبرالي قائلا: لا ريب في أن الجنرال مشرف يلاحق الإرهابيين في بلاده، بل ويعتقلهم ويقتل عدداً كبيراً منهم، لكن ما فائدة ذلك، كلما قتل عشرة خرج منهم عشرون، وهكذا إلى ما لا نهاية.. وبالتالي، فهناك طريقة اخرى للقضاء على الإرهاب غير هذه الطريقة، انها تتمثل في التعليم والتثقيف والتربية وصرف مبالغ ضخمة على إنشاء المدارس والجامعات الحديثة ليس فقط بالشكل، إنما بالمضمون أيضاً، لكن قبل كل ذلك ينبغي إغلاق المدارس القديمة التي تفرّخ العقليات الإرهابية تفريخاً. ويحكى بهذا الصدد ان الاتحاد الأوروبي منح الباكستان مبلغ مائة مليون يورو لكي يصحح نظام التعليم عنده، لكن ماذا تعني مائة مليون يورو بالنسبة لبلد يتجاوز عدد سكانه المائة وخمسين مليون نسمة؟!، ثم ان إغلاق المدارس التقليدية يعني الدخول في حرب مكشوفة مع القوى المحافظة في المجتمع، وهي ضخمة وتشكل الأغلبية، وبالتالي فالعملية غير مضمونة العواقب، والتنوير العربي أو الإسلامي لن يحصل غداً. إنه عملية معقدة وصيرورة طويلة تستغرق عدة عقود من السنين، كما حصل في أوروبا وأميركا نفسها. لكن لنفكر ولو للحظة، بالمسألة التالية: ما الذي كان سيحصل لو ان الرئيس بوش صرف المائة مليار دولار التي كلّفته إياها حرب العراق على التنمية وفتح المدارس والجامعات وإصلاح الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط الكبير التي يحلم بها؟ أما كان ذلك أفضل بكثير من صرفها على الأسلحة والمعارك والدمار؟ أليس تنوير العقليات وتقليص شرائح البؤس والفقر المنتشرة من الدار البيضاء وبيوت الصفائح الى جبال أفغانستان والباكستان مروراً بكل هذا العالم العربي المنكوب، هو افضل وسيلة لمحاربة الإرهاب والتطرف وانغلاق العقليات؟ لكن يبدو ان بوش يطبق مقولة ماكيافيلي «من الافضل أن تكون مخشيّاً مرهوب الجانب على أن تكون محبوباً»، فالقوة أو الجبروت وحدها تردع الآخرين عن التفكير بمهاجمتك والاعتداء عليك، لكنها لا تكفي في الواقع. وبعد ان استعرضت أميركا كل عضلاتها في أفغانستان والعراق كرد فعل على (11) سبتمبر، آن الأوان لكي تترك العصا وتستخدم الجزرة.

أما نحن العرب والمسلمين، فقد آن الأوان لكي نستشعر خطورة الوضع وننخرط في عملية التنوير الذاتي، فهذا التنوير الوقائي هو الذي سيحمينا من الغزوات الوقائية التي قد يفرضونها علينا غداً أو بعد غد، فالهوّة السحيقة التي تفصل بين عقليتنا القديمة وعقلية العالم المعاصر ينبغي ردمها أو تقليصها بشكل أو بآخر. والأمور لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه إلى أبد الآبدين، فنحن لسنا وحدنا في هذا العالم وهناك عقائد وأديان أخرى، وأصحابها متعلقون بها مثلما نحن متعلقون بعقيدتنا وديننا، وبالتالي فقد آن الأوان لكي نعترف بالتعددية وبمشروعية الاختلاف وبحرية المعتقد والضمير.