رصاصة الرحمة

TT

استقبل لبنان حتى الآن نحو عشرة من المواطنين الخارجين من صناعة الخطف في العراق. المخطوف الاول والاكثر شهرة كان جندي المارينز زكي حسون، الذي لم يسمح للبنانيين بمشاهدته لأن طائرة اميركية عسكرية خاصة نقلته من مطار بيروت. وهناك مجموعة اخرى عادت في التوابيت لان الخاطفين هذه المرة لم يكن امامهم قوة يهابونها او يفاوضونها، فقتلوا الرهائن وسمحوا لأهلهم، مشكورين، بدفنهم.

أكرر احيانا، للضرورة الفائقة وللتذكير بأنني لم افقد ذاكرتي بعد، اشياء كتبتها من قبل، ومنها انني لا أشاهد نشرات الاخبار في لبنان. ففي هذا الوقت أكون غارقا في كتاب مسل او كتاب ذي معنى او كتاب يحمل املا او صدقا او حقيقة. وهذه كلها مفقودة في النشرة. ولكن هناك حالات استثنائية جدا، ارغم نفسي فيها، كما يفعل معظم اللبنانيين، على ان نتابع الاخبار بالاكراه، في لحظات الخطر وأيام الازمات ومواسم الخوف.

بسبب هذه الموجبات المعلة، كنت اشاهد نشرة الثامنة مساء الجمعة الماضية عندما بث شريط وصول مخطوفين جديدين، اي آخرين، من العراق. اتجهت الكاميرا الى المخطوف الاول وهو يحاول النزول من الطائرة الصغيرة، فلم يستطع. فحمل. وطرح عليه المذيع سؤالان فجمع كل اضلاعه المحطمة لكي يستطيع الرد. وقال في رده ان الخاطفين عاملوه معاملة حسنة، لكن سبب تكسيره انه اصيب خلال غارة اميركية على المنزل الذي يحتجز فيه. وسئل هل من شيء آخر «ضايقه»، فقال صراخ المخطوفين الآخرين في الغرف المجاورة!

واتجهت الكاميرا الى داخل الطائرة الصغيرة، حيث كان المخطوف الثاني على محمل. وطرح عليه المذيع سؤالا فحاول الاجابة وجمع جميع اضلاعه وكل ما بقي له من انفاس، وجرب التلفظ بكلمة واحدة، فلم يستطع. سمعناه يتأوه ولا يقوى على الصراخ. وهو لو استطاع الاجابة لقال انه عومل معاملة حسنة، وانه اصيب في غارة اميركية، وانه تضايق فقط من صراخ المعذبين الآخرين في الاقبية. الباقي معاملة حسنة وحسن وفادة وفقا لأعتق التقاليد السمحاء.

خلال المراحل الاولى من ظهور النفط في بعض دول آسيا، ذهب ثري عربي في جولة مع حاكم الدولة في طائرته المروحية الخاصة. وفيما هم يحلقون فوق احدى الغابات، التفت الحاكم الى ضيفه العربي وقال له: «هذه المناطق لا يزال يسكنها أكلة لحوم البشر». ثم أضاف ضاحكا: «لدينا مثل شعبي يقول، ان صاحب الحظ هو من لا تسقط به الطائرة وهو حي».

الرهائن اللبنانيون الذين عادوا موتى من صناعة الخطف في العراق، كانوا اسعد حظا من الرجلين اللذين رأيناهما في نشرة الثامنة. مساء الجمعة. وربما من هنا، اي لأسباب الرحمة، حلل احدهم قتل المدنيين اذا كانوا من جنسية معينة.

واذا كان الرجل يعرف معنى الرحمة حقا، فاننا نتوسله ان يحلل قتل جميع الرهائن على الفور. وخصوصا دون «تحقيق». فان اي رصاصة او رشاش اكثر رأفة بالبشر مما رأيناه في نشرة الثامنة.