السوريون ليسوا «أجانب» بل بناة وطن وحضارة

TT

في غمرة العمل الجاد، الذي استغرق شهوراً من الجهود الدؤوبة، التي بذلها المئات من السوريين داخل وخارج الوطن، لوضع الأسس اللازمة لزج الثروة البشرية التي يمثلها المغتربون في عملية التنمية والتحديث الجارية لتحقيق المزيد من العزة والازدهار والوحدة للشعب السوري، في مسيرته للنهوض بالواقع المعاش بمختلف مجالاته السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، ولتعزيز مكانة سورية إقليمياً ودولياً، وحماية مصالحها وتمتين علاقاتها وقدراتها لمواجهة متطلبات العولمة، وتحديات تفرضها سياسات دولية أصبحت، لأسباب معروفة معادية للعرب عموماً، توافد ممثلو الجاليات السورية والمنحدرين من أصل سوري من اثنين وخمسين بلداً الى وطنهم الأم سورية، بعد أن عملوا بنجاح في توحيد جهودهم من أجل خدمة بلدهم، ضمن التعددية المعروفة عنهم بالآراء والروح النقدية التي يمتازون بها فكرياً وثقافياً وسياسياً. وتمثـل هذا النجاح في اعتماد صناديق الاقتراع لانتخاب قيادات روابط المغتربين. لقد وفد إلى سورية خلال الأسبوعين الأول والثاني من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، أكثر من خمسمائة باحث ومفكر ورجل أعمال ورؤساء وأعضاء روابط المغتربين، ليقدموا أوراق عمل أعدت ضمن عناوين اختيرت بعناية من قبلهم، لتعبر عن الأولويات الوطنية التي تهم السوريين في المرحلة الراهنة داخل وخارج سورية، وذلك في مؤتمر أعِد بعناية وبجهود مشتركة من قبل روابط المغتربين ووزارتهم وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

لقد ضم المؤتمر سورية كلها، مواطنين ومغتربين ومنحدرين من أصل سوري، ضمن تعدديتهم الوظيفية، رسميين وقطاعا خاصا، وضمن تعدديتهم الحضارية في الدين والرأي والمعتقد الفكري والسياسي، شارك الجميع، رئيساً وحكومة وأحزابا ومغتربين ورجال أعمال وفكر وإعلام، في الجهود والأبحاث والنقاش واتخاذ القرار ووضع التوصيات واقتراح المشاريع، وينتظرهم جميعاً عمل متواصل لتنفيذ ما يصبون إليه من تنمية وتحديث وازدهار لبلدهم وشعبهم.

في غمرة كل هذا العمل الجاد، قرأت ملاحظات الزميل المحترم عبد الرحمن الراشد، وأنا من قرائه المواظبين، بعنوان «مشكلة السوريين الأجانب»، («الشرق الأوسط»، 12 تشرين الأول (اكتوبر) الحالي)، فسمعت من كلمة «الأجانب» صوت سوط التهكم الذي يلاحقنا جميعا كلما سعينا لخير العمل، فأسفت لتبنيه السريع، وهو الحريص، نبأ سمعه، ربما من مغتربين عانوا في المغتربات ما واجهناه هنا، نحن المقيمين، باذلين الجهد والعمل الدؤوب وليس الشكوى البعيدة وحرفة الانتقاد.

وربما جاءت الملاحظات من مغتربين ابتعدوا عن كل هذا العمل الجاد لمواقف ذاتية، أو لظروف فرضت عليهم، فوقعوا في مأزق خلق واقع ذهني أكثر منه حقيقي، وفي مواقف مسبقة الرفض، ومن تقييم سلبي مسبق لنتائج أعمال المؤتمر. وربما جاء التقصير من جانبنا نحن الذين انغمرنا بالعمل ولم نزود الكتّاب المهتمين بالشأن القومي، مثل زميلي الكريم الأستاذ عبد الرحمن الراشد والعديد من القراء الكرام، بالوثائق والأبحاث والتوصيات المتعلقة بالمؤتمر، فمعذرة منه ومنهم، وشكراً واجباً له، على حرصه القومي على سورية ومصالحها، وعلى السوريين وشؤونهم، وأود أن أؤكد له، وللقراء الكرام، أنه لم يكن هناك سوريون «أجانب»، ولا يمكن أن يكون السوريون أجانب في بلدهم. فالمغتربون يرتبطون بسورية، مهما طال اغترابهم أو انحدارهم من أصل سوري، بوشائج القربى والعائلة، ولم يكن هناك أبداً أي تناقض بين ولائهم للبلدان التي انتسبوا إليها وعملوا على بنائها، وبين اعتزازهم بسورية البلد الذي انحدروا منه، ولا بين اعتزاز بلدهم وشعبهم بهم.

كان شعار المؤتمر «مع المغتربين من أجل التنمية»، لكن واقع الجلسات كان أكثر اتساعاً، وتميزت اللقاءات بما يتميز به السوريون من وحدة عند مواجهة المهمات، ومن عزيمة على إنجاز العمل المطلوب بإتقان. وثانياً: لم يعتد المغتربون على عقد مؤتمر سنوي لهم أبداً، بل هذا هو أول مؤتمر لهم، وقد شارك الجميع في التوصل إلى توصياته، باحثين ورسميين ومغتربين، وسنعمل جميعاً على تنفيذها، وكلما زاد عدد العاملين العازمين على خير الفكر والرأي والعمل، كلما زادت فرص تحقيق نتائج أفضل.

في عام 1985 خاطب الرئيس الراحل حافظ الأسد مؤتمر البرلمانيين المنحدرين من أصل عربي في بلدان الأميركيتين، التي ساهم في عمرانها الملايين من العرب السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، قائلاً: «نسعى أن تكونوا رسل خير لوطننا، وجسر صداقة بين أمتنا العربية والشعوب التي انتسبتم إليها في بلدان الاغتراب».

وفي المؤتمر الذي انعقد يومي 9 و 10 من الشهر الحالي، خاطب الرئيس بشار الأسد المغتربين قائلاً: «إن دوركم الهام في تحقيق التفاعل الثقافي الحي بينكم وبين الشعوب الأخرى، من خلال انتشاركم الجغرافي الواسع، وانفتاحكم على الآخرين، يشكـل الرد العملي على مقولة صراع الحضارات التي يروج لها بعض أصحاب العقول المغلقة».

توزع المغتربون في مؤتمرهم بدمشق على سبع ورشات عمل على مدى يومين، بحضور الوزراء والمسؤولين الحكوميين المعنيين والقطاع الخاص، وناقشوا بشفافية وحرص، مواضيع عديدة تتعلق بشؤون المغتربين، والتبادل الثقافي والإعلامي، والاستثمار، والبنى التحتية، والإصلاح المؤسساتي، والتعاون التقني، والتعاون الطبي.

وساد الجميع الحرص على أن ينأى بسورية عن حمم البراكين التي أصبحت منطقتنا في فوهتها بفعل سياسات دولية تقذف أمتنا العربية بنيران الاحتلال والاستيطان والعنف والإرهاب الحكومي والعنصرية الهوجاء، لا لشيء إلا لأن أمتنا هي صانعة التاريخ، وناشرة لقيم الهداية السماوية والمعرفة الإنسانية، ولأن نزعة التفوق العنصرية التي تعاني منها الحضارة الغربية، والتي عندما تتحكم بسياساتها تنزل بها إلى أدنى درك الهمجية، تجد اليوم تعبيرها العنصري في حملة معاداة العرب والإسلام، وهي كما كانت دوماً عبر تاريخها القديم والوسيط والحديث، تجد تعبيرها في استهداف أمة أو شعب أو فئة دينية أو عرقية أو عقائدية، لتنزل بهم قتلا وإبادة.

لقد عبّر توافد المختصين والعلماء والمفكرين وسيدات ورجال الأعمال على ورشات العمل، ليبحثوا مع أقرانهم من مواطنيهم وحكومتهم عن سبل النهوض بأمتهم وشعبهم، عن حقيقة هامة، وهي أنهم قادرون على تلمس نقاط الضعف، وتشخيص العقبات والمصاعب المعرقلة لعملية التنمية والازدهار، وأنهم قادرون أيضاً على رسم سبل المخارج من الأزمات، ولديهم جميعاً قدر كاف من الإرادة والكبرياء والعزيمة ليصنعوا حاضرهم ومستقبل بلدهم، وهم، الذين لديهم كفاءة الحرفيين الذين انتشروا في مناكب الأرض منذ آلاف السنين ليعمروا المدن وليعلموا العالم الأبجدية والتجارة، الفنون والصناعة، لقادرون على وضع الحلول لعملية التنمية في بلادهم. ولقد أنتجت ورشات عمل المؤتمر أفكارا ومخططات تحديثية واستثمارية وتنموية ومشاريع ملموسة، تتطلب العمل الجاد لتتحول إلى واقع حقيقي، في زمن محدد على يد الآلاف من السوريين داخل وخارج بلدهم الذين عقدوا العزم على تحويل هذه الأفكار والمخططات والمشاريع إلى قرارات وقوانين ومنشآت تنموية واستثمارية، وقد صدر العديد منها مسبقا لمعالجة شؤون المغتربين.

ليست سورية هي الوحيدة في امتلاكها هذه الثروة البشرية في المغتربات، فهناك بلدان عديدة لها جاليات كبيرة وفعالة منتشرة في العالم، مثل الصين واليونان وايطاليا ومصر والجزائر، ونحن نشترك معها بالاعتزاز بدور مغتربينا في بناء وتنمية وعمران بلدان أخرى، فوطننا جميعاً هو العالم.