العراق .. النصف المحرر يبحث عن تحرير نصفه الثاني

TT

تستيقظ كل يوم وتمد أصابعك نحو المذياع لاإرادياً، بحثا عن الأخبار، فتراودك أمنية واحدة، أن ينسى العالم بلدك ولو إلى حين، أو ترجع أخباره إلى نهاية النشرات. إذ ما تأتيك به الأخبار التي تتصدر النشرات عادة، هو حوادث القتل والموت والتفجير والخطف وحز الرؤوس. ثم يجري استكمال المشهد بالجانب الاقتصادي، بتخريب أنابيب نفطنا وحرق ثروتنا لإغاظة الأميركيين. يذكرني هذا المنطق، بما قرأته لطه حسين في «الأيام»، حيث يقول: عندما كنا طلابا في الجامعة المصرية، قمنا بإضراب احتجاجاً على احتلال القوات الايطالية لليبيا، فامتنعنا عن دخول محاضرة أستاذنا الايطالي، الذي سألنا عندما رآنا عند باب (قاعة) المحاضرات نمتنع عن دخولها، فذكرنا له السبب، فأجابنا بعد تفكير قليل، إنكم مثل الزوج الذي خاصم زوجته وأراد أن يغيظها فخصى نفسه!

كنا نظن بعد التغيير، أن الشعب العراقي سينكفئ على نفسه ليضمد جراحه، ويتصارح ويتسامح مع بعضه البعض، وينهض ببلده من بين الركام، كما هي الشعوب الحية التي خرجت بعد الحروب، حيث أن الأمم العظيمة بنت نفسها سراً وفي خلوة عن العالم. حتى الانتخابات، التي اصطلح بين كل الدول أنها شأن داخلي يخضع لإرادة أبناء البلد وقواه وفعالياته السياسية، ها هي تأبى إلا أن تكون مسألة دولية تستقطب اهتمام وتدخل الدول، قريبها وبعيدها. وقد انبرت المنظمات الدولية تعطي رأيها بإجرائها أو عدم إجرائها. وبتنا ننتظر فقط رأي منظمة الوحدة الأفريقية وفتوى من الأزهر، ومن المراجع الذين تركوا الشؤون اللبنانية وتفرغوا لنا. فكانت موضع تجاذبات وتوظيف من أطراف الإدارة الأميركية، ضمن قائل بأن تتم الانتخابات بشكل شامل، وآخر يستثني بعض المناطق من المشاركة فيها. كذلك أصبحت الانتخابات ميداناً مهماً في الصراع بين المرشحين الأميركيين بوش وكيري، حيث مثلت الانتقادات التي وجهت من قبل المرشح الديمقراطي كيري ومن أطراف أخرى، إحدى دعوات عقد مؤتمر دولي في النصف الثاني من أكتوبر الحالي، يضم الدول الثماني الكبار ودول جوار العراق، وقد انصب الانتقاد على الإدارة الأميركية الحالية، حيث اتهمت بالفشل في تعبئة المجتمع الدولي بسبب استراتيجيتها المتعلقة بالهجمات الوقائية، فضلاً عن استخفافها بالأمم المتحدة، وفشل الإدارة في جعل الموضوع العراقي مسؤولية العالم.

لكن من المشكوك فيه أن تستطيع إدارة أميركية أخرى أن تحشد، من الناحية الفعلية وليست الشكلية، قدرا أكبر من المشاركة الدولية، بسبب تطورات الأوضاع الحالية في العراق، ولاعتبارات السياسة المحلية التي قاومت طلبات أميركا للاشتراك بفعالية أكثر في العراق، إذ فضلاً عن أن الوقوف مع أميركا ليس من السياسات الشعبوية في أوروبا، فإن هناك إدراكا بأن أميركا لا تريد أن يشاركها أحد في حكم العراق وتقرير مصيره، إنها لا تريد اقتسام السلطة، وكل ما تريد اقتسامه هو الضحايا والنفقات.

لذا جاءت دعوة الولايات المتحدة والحكومة العراقية المؤقتة لعقد المؤتمر، محاولة للحصول على مساعدات أمنية وفنية لحماية وتيسير الانتخابات، وإضفاء الشرعية الدولية عليها، وللحصول، من جهة أخرى، على إقرار وتعهد من دول جوار العراق بضبط حدودهم البينية معها، وعدم تدخلهم في شؤونه الداخلية، والامتناع عن التأثير في مجرى الانتخابات عند إجرائها، إلا أن هذه الدعوة تكتنفها صعوبات، ذلك أن دول الاقليم، تدرك الاستراتيجية الأميركية الهادفة إلى دمقرطة المنطقة وتحسينها، وقرن ذلك بالأمن القومي الأميركي، مما يفضي إلى استخدام القوة لإحداث هذا التغيير، فضلاً عن الخوف من المعارضة الداخلية لهذه الحكومات التي يمكن أن تستلهم النموذج العراقي وتستقوي بالدعم الخارجي لتغيير هذه الانظمة، لا سيما أن الأمل قد فقدّ في تغييرها سلمياً على المدى المنظور، إذ أن رياح الديمقراطية التي هبت على العالم، بقيت منطقتنا العربية عصية عليها، حتى أن ما يسميها العرب مجاهل أفريقيا، شهدت تحولات وتداولا للسلطة، في حين بقيت بلداننا تعيش تنافرا سرمديا مع الديمقراطية. والغريب الذي يصل إلى حد المفارقة، أنه:

أولا، يطلب من دول لم تعرف الانتخابات الحقيقية في تاريخها وربما تعرفها حين تحال إلى أرشيف التاريخ، أن تقرر لدولة مجاورة لها إجراء الانتخابات.

ثانياً، أن تقرر في ما إذا كان الوضع يسمح بإجراء الانتخابات أم لا، في حين أن غالبيتها عمل على تغذية ودعم أعمال العنف فيه، وسهل حركة المقاتلين، الذين لا أظن أنهم جاءوا من كوكب آخر.

ثالثاً، أن يطلب منها تحقيق الأمن والاستقرار، في حين أنه لا مصلحة مباشرة لبعض جيران العراق في قيام هدوء واستقرار فيه.

رابعاً، أن يناقشوا مستقبل العراق، وهم الذين إذا اختلفوا على علمانيته أو إسلاميته، مركزيته أو فيدراليته، فإنهم يجمعون على رفضهم لديمقراطيته.

رغم ذلك، فإن قبول هذه الدول بالمشاركة والتركيز على الانتخابات، يساير التصورات الأميركية والإقرار بأن الترتيب الأميركي هو ما ينبغي التعامل معه وليس خيار المقاومة، الذي بدا محرجاً حتى للدول الداعمة له، وأن إشراك هذه الدول هو ما يجعلها جزءاً من الحل بدلا أن تظل جزءاً من المشكلة. لكن الذي سيتم في المؤتمر، هو مقايضة الملفات الخاصة لهذه الدول مع أميركا، بأمن العراق، فضلاً عن تذكيرهم وتهديدهم بالمخاطر التي ستنجم في ما إذا استمر الحال أو تصاعد، وأن لا أحد سيكون بمنأى عن الشرر.

ستعطى هذه الدول الوعود بانتظار أسبوعين مقبلين يقرران مصير الانتخابات الأميركية، فإما أن تظل هذه الإدارة جارة لهم لأربع سنوات مقبلة، وهذا سيدفعهم للتسابق على تقديم فروض الالتزام وتطبيق التعهدات مع إدارة قوية متحررة من الضغوط الانتخابية ولديها الكثير من الوقت، أو أن تتحقق أمانيهم بمجيء إدارة أميركية جديدة تقترب من التصورات الأوروبية وأسلوب تعاطيها مع أزمات المنطقة.

وسرعان ما التقطت فرنسا الإعلان عن عقد المؤتمر، وبدأت تضع الشروط لانعقاده، لتوجه من خلال ذلك رسائل إلى خاطفي رعاياها من جهة، ولتؤكد موقفها الأخلاقي (الكلامي)، الذي يجد صداه عند أمة (الكلام) العربية، لتدخل هي وأطراف دولية أخرى في مساومات مع الإدارة الأميركية، حيث تحرص فرنسا على ألا يستفيد الرئيس بوش من المؤتمر انتخابياً.

في خـضم هذه التـجاذبات الدولية والاقـليمية، نأمـل ألا يتم نسيان الشعب العراقي، والذي تمثل إرادته وتصميمه الفيصل في إجراء الانتخابات، إذ أن الـتخلص من الدكتـاتورية يـعادل نصف الحرية والنصـف الثاني يتوقف علينا نحن العراقيين.