الحقيبة القاتلة

TT

قبل سنوات قليلة جاء عبد الرحمن العمودي في جولة إلى العالم العربي، مروراً بلبنان. وقد اصغيت اليه بمشاعر مختلطة: من ناحية، كان الرجل أنيق الحضور، متواضعاً وقادراً على الاقناع، ومن ناحية اخرى كان يتكلم كـ«أميركي»، ويطالب سامعيه بـ«تفهم» سياسات اميركا. وشعرت انه ينطلق من موقع خاطئ، لكنني في الوقت نفسه لم استطع الا ان امَّني النفس بشيء من التفاؤل.

فقد عرفت في العقود الثلاثة الماضية نوعاً بائساً من «الناشطين» العرب ودعاة القضية الفلسطينية. كان اكثرهم من النوع المنفِر، او الجاهل، او الذي لا يعرف عن البلاد التي يسكنها سوى جيرانه. وكانت غالبيتهم من النوع العقيم، برغم صدقه واخلاصه، يدور على السفارات العربية في واشنطن ونيويورك، متوسلاً مساعدات مضحكة، او يصدر صحفاً موسمية لا يقرأها احد، لكنه يجد من خلالها مبرراً لدخول الامم المتحدة او التظاهر امام مبناها او حضور غداء ما.

لم يكن احد يجهل حجم وطبيعة هذا النوع من الحناجر. وكان عقلاء العرب يعرفون ان هؤلاء السادة، يتركون اثراً معاكساً في النفوس ويرسمون للعرب في الاروقة الدبلوماسية صورة مؤذية وبالغة الضرر للقضية الفلسطينية. لكن الشفقة بالنسبة الى البعض، ومداراة السفهاء بالنسبة الى البعض الآخر، جعلت عرب اميركا يتقبلون هذه الظاهرة على انها ضريبة القضية.

عندما رأيت عبد الرحمن العمودي يتحدث، ظننت ان طبقة جديدة من الناشطين، قد نشأت. رجال يعرفون طبيعة المجتمع الاميركي ويعرفون دورهم فيه ويعرفون موقعهم، ويحاولون، بأسلوب جديد، بعيد عن التهريج والارتزاق والجهل الأدبي واللغوي والسياسي، مخاطبة الرأي العام الذي نحتاجه اكثر من سواه، ويرفضنا اكثر مما يرفضنا سواه. غير ان مشكلة «الناشطين» او «الدعاة» في اميركا انهم يواجهون دائماً جدار المال. ويذهبون جميعاً الى الدول العربية، خصوصاً الغنية منها، طلباً للدعم، والدول العربية نوعان: واحد يصرف على الجمعيات الموثوقة ويساعد الجاليات المعروفة والثابتة، ويساهم في اقامة المساجد والمدارس، وآخر لا يقدِّم اي مساعدة الا عن طريق المخابرات. ولقاء ثمن. وهذا الثمن يكون في الغالب التجسس على العرب الآخرين، ومهاجمتهم، والتظاهر ضدهم، وتسخيف المعارضين من اهل بلدانهم، وبث الشائعات التي تخونهم.

شعرت بخيبة أمل عندما حكم عبد الرحمن العمودي بالسجن 23 عاماً بسبب تآمره لاغتيال الأمير عبد الله بن عبد العزيز. لقد خسرنا طاقة اعلامية كبرى في اميركا وامكانية سياسية تكاد تشبه، في طلاقتها وخطابها، القس جيسي جاكسون. وفي مهمة من هذا النوع كان يمكن للعمودي ان يجني الملايين كخطيب ووجيه ديني وعرقي في المجتمع الاميركي. وكان بقدراته وجاذبيته قادراً على تعبئة مئات الآلاف خلفه، بدل ان يسيروا وراء عامل سابق في ناد ليلي. لكن ذلك، للأسف، لم يحدث. ولست اعرف ماذا حدث للرجل، بحيث قبل هذا الثمن البخس، ليس لحياة زعيم عربي كبير، بل لحياته وسمعته ومستقبله. ولست ادري، والدنيا مفتوحة امامه، كيف استبدل اللمعان الذي كان ينتظره في اميركا وخارجها، بإغراء العتم والظلام ورشوة من عميل صغير اثقله بحقيبة حجرية من الدولارات. انه رجل سيئ الحظ، عبد الرحمن العمودي. لكن ليس الى النهاية. حفنة من الدولارات حوَّلت الوسيط الكبير الى مجرم صغير. كان يحلم بموقع ودور ورسالة، فاذا به يسقط تحت حقيبة تافهة، الغت دوره وحياته ورسالته. ثقافة الاغتيالات الرسمية التي اثقلت على العالم العربي وصورته طوال عقود. هذه المرة سقط المدّبر وارتد الاغتيال على صاحبه.