رمضان في مخيمات سرسنك

TT

اعتادت وزارة المعارف العراقية في العهد الملكي، على دعوة الطلبة لقضاء عطلة صيفية كشافية في مصيف سرسنك بكردستان، للرياضة والاستكشاف والاطلاع على المنطقة الكردية من الوطن. كنا نلبي الدعوة بحماس وشوق.

صادفت إحدى هذه العمليات شهر رمضان الكريم، وأوقع ذلك إدارة المخيم في مشكلة. فقد تضمنت الحياة الكشفية نشاطاً يومياً مضنياً في مسيرات طويلة شاقة وتسلق الجبال الوعرة إلى القرى المجاورة. وكان شيئاً صعباً على أولاد احداث يقومون به بمعدة خالية ومن دون وجبة طعام جيدة أو يسمح لهم بشرب الماء في هذا الصيف الملتهب. احتار المعلّمون المسؤولون عنا، في ما يمكن لهم أن يفعلوه أمام هذا الموقف. عقدوا في ما بينهم جلسة استفتاء لم يسبق لهم ان عقدوا مثلها من قبل، تكلّم أحدهم فقال إن بين الطلبة تلامذة مسيحيين ويهودا ولا يجوز لنا أن نحرمهم من الأكل، انهم من أهل الذمّة ولا يجوز لنا أن نفرض عليهم أمور ديننا، فلا إكراه في الدين. قال آخر، بل ولا بد أن يكون بين هؤلاء الطلبة الصغار من لم يبلغ بعد سن الرشد، ومن أين لنا أن نتحقق من ذلك.

صدرت الفتوى للطباخ بأن يعد من الطعام ما يكفي لأبناء أهل الذمّة والأولاد الصغار، وكان لدينا طباخ إيراني حكيم، فرغم ان عدد النصارى واليهود في المخيم لم يكن يتجاوز عدد أصابع اليد، فإنه دأب على طبخ ما يكفي لمائتي تلميذ، كان يقف أمام القدر الكبير المنصوب فوق المنضدة ويسأل التلاميذ واحداً واحداً: «نصراني؟»، فيهز التلميذ برأسه بإشارة يمكن تفسيرها بأي شيء، من «نعم أنا عالم نووي»، إلى «نعم أنا من أبناء كونفشيوس». لكن الطباخ الذي لم ينظر إلى هزة الرأس يكون قد ملأ الصينية للتلميذ بالرز والباميا واللحمة والسلطة وأضاف إليها قدحاً مليئاً باللبن وصحناً من الآيس كريم والمربى.

ويظهر أن الطباخ الإيراني قد أخذ يمل من طرح هذا السؤال: هل أنت نصراني؟، خطر له شيء آخر، فقد كان كما قلت طباخاً حكيماً، وليس كالطباخين العرب الذين كانوا يأكلون أكثر مما يطبخون لسيدهم. خطرت له خاطرة كما قلت، فذهب واستدعى مجلس المعلمين الذي تحول أثناء ذلك إلى مجلس إفتاء مؤقت، قال لهم بعربيته المكسرة: «هزا شيء مو صحيح، هازا كفر. الصحيح هو هازي الأولاد على سفر، هزي الأولاد بيت مال أبوها بالبغداد هنا في سرسنك في سفر، وفي سفر المسلم مو يصوم، الله في كتابه هيجي يغول، اغروا كتاب الله وشوفوا».

وهنا نظر المعلمون في وجوه بعضهم بعضا باستياء، كل دراستهم ومعرفتهم لم تنفعهم ويأتي هذا الطباخ العجمي الجاهل ويعلمهم على امور دينهم، لكنهم تذكروا، ولمَ لا؟ فثلاثة أرباع فقهنا وعلومنا كتبها لنا الفرس. وهنا تشجع المعلم سعيد افندي فقال، بعد أن أمر الطباخ بالانصراف وعدم التجاوز على سلطات مجلس الإفتاء المؤقت، انه بالإضافة لذلك، فهؤلاء الطلبة يقومون كل يوم بسفرة طويلة مشياً على الأقدام إلى القرى المسيحية في المنطقة، وهذا مما يشكل ايضا بوضوح عذر السفر المنصوص عليه، فلا جناح عليهم إن أكلوا الباميا والرز واللحمة والآيس كريم، وهم على سفر.

وهو ما كان، ولم يعد الطباخ يسأل أحدا منا «أنت نصراني؟».

وكانت أيام، أيام رمضان وفاتت.