العراق: معركة المثلث السنّي تقترب

TT

ليس من عادة آل بوش البقاء طويلا في مناصبهم. كان عمر بوش الأب قصيرا في الكونغرس، ثم في إدارة المخابرات المركزية. وكان مهمشا مكسور الخاطر كنائب لرئيسه ريغان. وقضى الوالد أربع سنوات في البيت الأبيض، ثم سقط في معركة التجديد أمام مرشح مجهول اسمه بيل كلينتون.

وها هو العالم كله ينتظر سقوط بوش الابن بعد أسبوعين (2 نوفمبر). نجاحه سيكون معجزة تعتمد فقط على كون منافسه جون كيري وليس جون كنيدي. إذا كان الأب أمثولة جيدة للابن في السقوط، فسيزداد وضع أميركا العراقية بلبلة واضطرابا. نعم، يبقى دابليو بوش رئيسا مؤقتا إلى 20 يناير المقبل، لكن عليه التشاور مع المنافس الفائز الذي يحك أنفه، ثم يحك ذقنه كلما سئل عن موقفه العراقي.

إذا خيب الرئيس دبليو آمال العالم ونجح، فغالب الظن أن معركة «المثلث السني» في العراق ستنشب بعد الانتخابات الأميركية وقبل الانتخابات العراقية في يناير. لقد تم تأجيل الحرب على السنّة كي لا تصوت الفلوجة لكيري، ولكي لا يهز الزرقاوي بمذابحه وسياراته المفخخة ثقة الناخبين الجمهوريين ببوش الذي عجز إلى الآن عن الإمساك بمصاص الدماء في العراق.

في مخطط «الاستراتيجية الأميركية لمساعدة العراق»، يريد بوش استعادة السيطرة على عشرين إلى ثلاثين مدينة وبلدة سنّية، بهجوم خاطف تشارك فيه قوات أميركية وعراقية. الهدف اخضاع السنّة وتسليم مثلثهم «المتمرد» إلى دولة إياد علاوي، وتحييد المقاومة، وتصفية «الجهاديين» في معاقلهم في المثلث.

نجاح الاقتحام لسامراء يغري الأميركيين ونظام علاوي باقتحام الفلوجة والرمادي. الفلوجة (300 ألف نسمة) المتمردة على الدولة وعلى الأميركيين، وقبلهم على صدام، رفضت إنذار علاوي بتسليم الزرقاوي الذي يقال إنه مختبئ فيها. وقطع وفد الجماعات السلفية المسيطرة عليها المفاوضات المتعثرة مع الحكومة ردا على الإنذار، ورد الأميركيون بخطف رئيس الوفد المفاوض الشيخ خالد الجميلي، وهو أيضاً مدير شرطة المدينة.

أتمهل هنا لأقف عند ظاهرة «عمائم السنّة» التي تورطت في السياسة. أذكِّر أولا بأن سنّة العراق لم تكن لديها مرجعية دينية تملك نفوذ وقوة المرجعية الشيعية. وفي الغياب شبه التام للقوى والأحزاب السنّية السياسية، برزت العمائم لتتصدر المسرح السياسي السنّي، كما فعلت عمائم المسرح الشيعي.

العمائم السنّية تتحرك تحت أسماء وهيئات بلا حصر، أهمها هيئة علماء المسلمين، والحزب الإسلامي، وجماعات سلفية وصوفية تتمركز في الفلوجة وبغداد.

الظاهرة المقلقة في هذه التجمعات كونها متأثرة بمشروع الدولة الدينية عند «الإخوان المسلمين» إن لم تكن محسوبة عليهم تنظيمياً. سيطرة هذه التجمعات على المساجد للتحريض والتكفير، وتجنيد مليشيات خاصة بها، ثم علاقتها الغامضة مع جماعات الإرهاب «الجهادي»، ومع بعث صدام والعشائر المؤيدة له... كل ذلك يقدم للعرب شاهداً ودليلاً على كيفية إدارة الإخوان للسياسة عندما تحين لهم الفرصة للإمساك بالسلطة. هذه الكيفية تختلف تماماً عن «تمسكهم» بالديمقراطية في البلدان التي يقفون فيها موقف المعارضة.

لقد حيد علماء «الإخوان» السنّة الأحزاب والشخصيات السنّية باتجاهاتها الليبرالية والقومية واليسارية، وفرضوا «الحاكمية الإلهية» في المناطق التي يديرونها، متجاوزين سلطة الدولة والقانون، وممكنين الجماعات الإرهابية من شن عملياتها المروعة ضد المدنيين العراقيين.

أضرب مثلاً سريعاً على فجاجة التجربة والخبرة : وفد «علماء» الفلوجة لم يكتف برفض تسليم أو طرد الإرهابيين، إنما يهدد بإعلان العصيان المدني و«الجهاد» في العراق، ومقاطعة الانتخابات ! متناسيا أن الأكراد والشيعة لا يوافقون السنّة، ولا يتفقون معهم في مقاومة نظام علاوي.

مسؤولية «بعث» صدام لا تقل عن مسؤولية «حلفائه» الإخوان وجماعات الإرهاب. قلت سابقاً إن سقوط الرجل كان فرصة كبيرة للبعثيين العراقيين لنقد التجربة ومراجعتها، وتطهير الحزب من الاستئصاليين. وأقول الآن إن الفرصة ما زالت سانحة مع سياسة اليد الممدودة التي اعتمدها نظام إياد علاوي الذي نجح نسبياً في استعادة البعثيين الذين لم يتورطوا في مذابح صدام.

لقد سار بعث العراق تحت قيادة صدام، من حزب طليعي قومي، إلى حزب عشيري. وها هو الآن يحالف المرجعيات الدينية والإخوانية و«الجهادية» بحجة تنسيق مقاومة «وطنية» فقدت أصلا نبل المقاومة وشرعيتها الثورية بعملياتها الوحشية ضد مواطنيها.

لم أعرف علاوي المعارض. لكن أقول من خلال متابعتي لتجربته، إن هذا الرجل يحاول جاهدا أن يعلو فوق هويته الطائفية (الشيعية) ليقدم نفسه ونظامه عراقيا وطنيا، وربما أيضا ليبراليا عربيا. برهن علاوي على قوة أعصاب وثقة بالنفس، ومهارة تفاوضية مع كل الفئات، وتمكن من أن يبني قاعدة سياسية له، وعلاقة طيبة مع معظم الزعامات والطوائف والأعراق والمذاهب. إذا كان الرجل قد أخطأ في المشاركة في الدعاية الانتخابية لبوش، فهو ليس بدمية أميركية كما ترسمه المقاومة والمعارضة.

مع ذلك، أحسب أن شرعيته سوف تترسخ بالإصرار علنا على نيل الأميركيين موافقته المسبقة، قبل شن هجماتهم الجوية على المدن الآهلة بالسكان. كذلك، لا بد لعلاوي من الامتناع عن إرسال كتائب الحرس الوطني الكردية والشيعية لاقتحام المناطق السنّية.

حرب إدارة بوش ضد السنّة لن تكون هيّنة. سيسقط ضحايا من المدنيين. وليست السيطرة بمضمونة على مدن المثلث بعد احتلالها، ومنع الإرهابيين من العودة إليها، نظرا لعدم توفر قوات كافية لحمايتها. غير أن تأجيل المعركة أو إلغاءها يتوقفان على قدرة «علماء» السنّة وزعماء العشائر على طرد وإخراج المتسللين من مناطقهم.

أميركا بوش، إذن، تتأهب للحسم سلماً أو حرباً مع السنّة، في الوقت الذي عادت إلى مصالحة الشيعة. كان تأديب أميركا لمقتدى الصدر بمثابة راحة نفسية لكل القوى الشيعية التي تجلس تحت الشجرة الأميركية منتظرة سقوط تفاحة الحكم في حضنها بعد الانتخابات. يجرى الآن تسييس الفتى الصدري بعدما أخفق تفخيخه. لكن إشراكه في اللعبة السياسية يتوقف على إقناعه بعد اتفاقه مع حكومة علاوي لتسليم أسلحته وحل مليشياه، من مدينة الصدر في بغداد إلى جنوب العراق.

يبدو أحمد الجلبي في هذه الأيام حليفا للصدر ومستشارا له. الجلبي الذي استبدلته أميركا بعلاوي كرجل المرحلة لم يغب عن الساحة. فهو يحاول جمع شتات الشيعة، في الوقت الذي يمد خيوطه وحباله إلى الأكراد والسنّة وإيران. وإذا نجح الجلبي في ذلك، فربما خطف المبادرة من علاوي.

المصالحة الأميركية الجديدة مع شيعة العراق تمهد إلى مصالحة أميركية محتملة مع إيران. فوضت إدارة بوش أوروبا تقديم ضمانات أمنية وإغراءات اقتصادية لإيران لوقف مشروع قنبلتها النووية الذي يقلق إسرائيل. زعماء الشيعة في العراق يحجون إلى طهران لإقناع خامنئي وجناحه المحافظ المسيطر بالكف عن التورط المكشوف في العراق، كي لا يعرقل وصولهم إلى الحكم والسلطة.

اتفاق ساسة الشيعة ومراجعها الدينية على مصالحة أميركا ومسايرتها، لا ينفي أن العلاقة مبلبلة بينهم، وغامضة بينهم وبين إيران. وما زال الدور الإيراني متناقضا مع نفسه في العراق. لقد مولت إيران الصدر على الرغم من أن «عروبته» تزعجها. وما زالت تمول تنظيمات قوية أخرى، وتمد خيوطها حتى إلى السنّة والأكراد، بل تضايق أجهزة مخابرات علاوي باغتيال بعض ضباطها، بحجة كونهم بعثيين أو صداميين.

أخيراً، إذا كانت هناك من نصيحة لسنّة العراق، فهي الإقدام على المشاركة في اللعبة السياسية السلمية. لعل في حضورها السياسي حماية لعروبة العراق، ولعل في المشاركة أماناً لها وهي المحاصرة في بغدادها ومثلثها من كل الجهات بفئات وجيران، إن لم يظهروا لها عداء، فهم لا يكنون لها ودا.