بن لادن الطليق وإيران النووية: لغز مفهوم.. وآخر عسير الفهم

TT

تزداد بعض الحالات المرسومة فوقها علامات استفهام وتعجُّب كثيرة غموضاً، الى درجة انها باتت تكتسب صفة الالغاز التي من الصعب سبر تعقيداتها. وكلما امعن المرء تأملاً في هذه الحالات ازداد يقيناً بأنها من الالغاز المستعصية، شأنها في ذلك شأن لغز العملية الترويعية يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 في كل من نيويورك وواشنطن، والتي افرزت الغازاً صغيرة مثل لغز موجبات الحرب على افغانستان والعراق، ولغز استفراد الشارونيين بالشعب الفلسطيني ومواصلة مطاردتهم إلى مشارف الحدود مع مصر، ولغز السكون العربي على الاستهانة التي تنال من الهيبة العربية، ولغز الاستدارة القذَّافية من اعلى درجة في الميزان الثوري الى اعلى درجة في ميزان القبول بالأمر الواقع المتأمرك، ولغز الانشغال الجمهوري بالتوريث في اكثر من بلد عربي وتقديمه على واجبات وموجبات الانشغال بهموم الوطن، ولغز قدرة اكبر بلد اسلامي وهو اندونيسيا على ممارسة عملية الانتخاب الرئاسي باسلوب في منتهى الديمقراطية ومن دون ان تراق نقطة دم مواطن او يُزج بالخصوم والمعترضين في السجون، بينما هنالك في دول اخرى من عالمنا العربي انتخابات رئاسية خارجة على الاصول الديمقراطية بمعناها الموضوعي وليس بمعنى الأمر الواقع الذي يتسم بالزخرفة.

ومع ان الالغاز الفروع ليست بسيطة، إلا ان ما يستوقف المرء في المشهد العام لغزان اولهما يتعلق بثنائي بن لادن ـ الزرقاوي الذي هَزَم شكلاً «رامبو» في عقر داريه: الدار الافغانية ـ الباكستانية والدار العراقية. ومن حق المتأمل في التطورات التي تحدث منذ سقوط نظام طالبان الى تساقُط نظام صدَّام ان يتساءل: هل من الطبيعي ان القوات الاميركية على هذا العجز، وهي التي تملك من وسائل التكنولوجيا والقوة العسكرية ما يجعلها قادرة على ان تُمسك بالهاربين او المتهربين منها، حتى اذا كانوا وسط الادغال او مختبئين في الكهوف، وذلك على اساس ان لكل دغل وسيلة اختراق ولكل كهف وسيلة اقتحام ومن دون ان يتأذى المهاجمون، بينما في استطاعة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الفتك برجل الدين الخارج على طاعة النظام بدر الدين الحوثي معلناً سيطرة «الثورة السبتمبرية» على «الثورة الحوثية»، وبعد صولات وجولات سالت نتيجة لها دماء كثيرة فوق جبال مران وفي مناطق وتخوم كثيرة في محافظة صعدة.. التي سبق ان شهدت في الزمن الثوري الناصري الغابر إنهاكاً للقوات المصرية؟

وما يلفت الانتباه أن «الظاهرة الحوثية» لم تصمد، ليس فقط لأن ميزان القوة كان يميل لمصلحة النظام، وإنما لأن الرئيس علي عبد الله صالح ارتأى ان بقاء «الحوثي» على قيد الحياة لا يفيده فقرر انهاء ظاهرته خلاف ما ارتآه الرئيسان بوش ومشرَّف اللذان يجدان مصلحة في الإبقاء على ظاهرة بن لادن والزرقاوي والظواهري ماثلة في الاذهان، ومن اجل ذلك فإن معالجتها تتم في منأى عن الحسم والاكتفاء بتوضيحات وتصريحات من بينها ما قاله كبير جنرالات اميركا في كابول الاسبوع الماضي «إن بن لادن على الأرجح حي...» وهو كلام يثير التعجب كونه يصدر عن هذا الجنرال الذي يؤكد بذلك تعميق حالة بن لادن كأحد اللغزين اللذين نكتب عنهما.

اللغز الثاني يتعلق بـ«ايران النووية». فهي تتوعد أو تُحذر اميركا وكما لو أنها باتت على مشارف ان تكون مثل كوريا الشمالية نووياً. وهي في الوقت نفسه ومن اجل استكمال المرحلة الاخيرة من خطة العمل على ان تكون نووية مارست كل انواع المرونة مع اميركا في الموضوع الافغاني ومارست في الوقت نفسه «لعبة القاعدة»، حيث انها شجعت بعض كوادر تنظيم بن لادن على اللجوء الى ايران تفادياً للوقوع في الأسر الاميركي وبذلك بدت منسجمة مع نفسها في انها دولة ثورية تناصب «الاستكبار البوشي» العداء، ثم فتحت خطوطاً مع اميركا لتسليم الكوادر مقابل عدم التعرض لمنشآت مُفاعِل «بوشهر» وردع اسرائيل كي لا تقوم بغارة على هذه المنشآت على نحو ما فعلت مع منشآت صدام.

بعد ذلك ارتفعت وتيرة المرونة مقرونة بالتصريحات النارية وبالذات بعدما بدأت اميركا ومعها الدول الاوروبية اسلوب محاسبة ايران وفق الاجراءات التي في استطاعة «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» اتخاذها، توطئة لنقل الموضوع الى مجلس الأمن حيث اتخاذ قرار بالعقوبات أمر على درجة من السهولة، ما دامت روسيا لن تتصلب وما دامت الصين لا تتدخل. وكان لافتاً على صعيد المرونة ان الحكم الإيراني اكتفى بالإرتعاش الذي اصابه من جراء ما فعلَتْه القوات الاميركية بالمراقد المقدسة في كربلاء والنجف، ولم ينجح حتى في عقد القمة الاسلامية الاستثنائية التي دعا اليها الرئيس خاتمي مرتين، من دون ان يلقى التجاوب من اي دولة اسلامية حتى لعقد مؤتمر لوزراء الخارجية يكون بديلاً عن القمة. ولكي يغطي هذا الإخفاق أعلن عن تجربة صاروخ «شهاب 3» البعيد المدى ولجأ الى التصريحات النارية ثم لاحظ الحكم الايراني انضمام «المزوِّد النووي» اي روسيا فجأة الى اميركا والدول الاوروبية في شأن المطالبة بتعليق جميع الانشطة الايرانية المرتبطة بتخصيب الاورانيوم، وبدأ الرأي العام الايراني يعيش حالة احباط وهواجس ناشئة عن احتمال ان يصيب ايران في الحد الاقصى ما اصاب العراق الذي ماطل نظامه كثيراً في موضوع التفتيش على اسلحة الدمار الشامل، محققاً لأميركا الذرائع في ان تشن الحرب، أو أن تتعرض المنشآت النووية في الحد الادنى الى عملية تدمير اسرائيلية تغض اميركا بطبيعة الحال الطرف عنها وتعتبرها دفاعاً مشروعاً عن النفس.

وكان لافتاً كشف صحيفة «هاآرتس» الاسرائيلية عن هذه الصفقة يوم 21/9/2004 وكما لو أنه رد مباشر على صاروخ «شهاب 3» وعلى التوجه العام الذي لخّص ملامحه بعد اربعة ايام (الجمعة 25 سبتمبر الماضي) وزير الدفاع الاميرال علي شمخاني بالقول «إننا زوَّدنا جيشنا بصاروخ استراتيجي وباتت ايران في ضوء ذلك تملك الآن وسائل فاعلة للدفاع عن نفسها في وجه جميع التهديدات سواء كانت صادرة من المنطقة او من خارجها...». وتزامنَ مع كلام شمخاني كلام آخر لخطيب صلاة الجمعة في طهران محمد إمامي كاشاني جاء فيه مخاطباً الرئيس بوش: «اذا كنتم تفكرون في شيء يمكن ان يمنع الأمة والنظام الايرانيين من امتلاك التكنولوجيا والتقنية النووية، فسيكون عليكم مواجهة قبضة الأمة الايرانية...».

وعندما بثت وسائل الإعلام العالمية يوم الاربعاء 29 سبتمبر الماضي تصريحات لرئيس الاركان الاسرائيلي شاؤول موفاز المولود في ايران مبدياً فيها العزم على المواجهة بعدما كانت اسرائيل حصلت على كل، أو بعض، الخمسة آلاف «قنبلة ذكية» من اميركا والقادرة على تدمير اشد التحصينات الاسمنتية صلابة، وقوله «إن كل الخيارات لمنع امتلاك ايران اسلحة نووية سيتم بحثها» بات لا بد من نقلة نوعية في الرد. ومن هنا جاء تصريح قائد حرس الثورة الجنرال يحيى رحيم صفوي يوم الخميس 30 سبتمبر الماضي الذي قال فيه: «ان اسرائيل غير قادرة على شن حرب على ايران عن بُعد. ومن جانبنا فإننا توصَّلنا الى الاكتفاء الذاتي في الصناعة العسكرية خصوصاً ما يتعلق بالصواريخ المتوسطة والطويلة المدى وفي مجال الطيران وتكنولوجيا السفن الحربية وصُنع الدبابات والمدافع...» . وفي اطار النقلة النوعية ايضاً جاء كلام الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني الذي يشغل منصب رئيس «مجمع تشخيص مصلحة النظام»، والمحتملة عودته رئيساً للجمهورية خلفاً لخاتمي في حال أمكن تجاوز ثغرة السن كون رفسنجاني بات في السبعين من عمره، خلال مشاركته يوم الثلاثاء 5 اكتوبر الحالي في مؤتمر في طهران حول موضوع «الفضاء واستقرار الأمن القومي» نظمته «مؤسسة ابحاث الجو والفضاء» الايرانية. ومما قاله رفسنجاني: «اننا نملك الآن القدرة على اطلاق صواريخنا الى مدى الفي كيلومتر. ان الولايات المتحدة والنظام الصهيوني هما اعداؤنا، إلاَّ انه نظراً الى تجاربها السابقة فإن الولايات المتحدة تدرك انها يجب ألاَّ تقحم نفسها في نزاع خطير معنا. واذا هاجم الاميركيون ايران فسيتغير العالم وهم لن يملكوا الجرأة على ارتكاب خطأ من هذا القبيل...».

بعد هذه الاضاءات على الحالة المتعلقة بـ«معجزة» بن لادن في عدم تمكُّن الدولة الاعظم وحليفها الباكستاني من العثور عليه بالمقارنة مع حالة الحوثي التي حسمها الرئيس علي عبد صالح، والحالة المتعلقة بـ «ايران النووية»، نجد انفسنا نستنتج بأن استراتيجية الدولة الأعظم لربع القرن المقبل، تتطلب على ما يبدو من جملة ما تتطلب، ان تبقى حالة بن لادن الطليق على حيويتها، وبحيث لا يُضام الرجل و«ظواهره» وبعض كوادر «قاعدته»، وتستكمل ايران طموحها النووي لأن وضع اليد على ايران نووية على نحو القبول بـ«باكستان نووية» يشكل مفصلاً مهماً في الاستراتيجية المشار اليها. وبدل ضرب منشآت مُفاعِل «بو شهر» الذي اعلنت روسيا وايران يوم الخميس الماضي الانتهاء من بنائه وان هنالك بعض الاعمال لم تنته بعد ومتعلقة بتجميع بعض معدات الامن والتحكم، يتم ضرب النظام عن طريق رفع درجة «الخلخلة» التي بدأت منذ سنتين من اجل ان يتساقط ويتربع المتأمركون على قمة السلطة في ايران النووية التي تخيف بها عندئذ اميركا الجيران القريبين والأصدقاء البعيدين والحالمين الأبعدين وبالذات روسيا. ومن هنا اعتبار حالة ايران النووية لغزاً عسير الفهم على البعض بينما حالة بن لادن باتت لغزاً مفهوماً... وأكثر من اي وقت مضى.