هذه المعركة ..كرمى لأشجار الزيتون!

TT

على الغربيين الذين يروجون لوحشية العرب وعنفهم، وبني جلدتنا الذين يخجلون من انتمائهم لأمة يعرب الموسومة بتهمة «الإرهاب»، أن يعودوا للتقرير الأخير للأمم المتحدة حول وضع الفلسطينيين تحت الاحتلال ليكتشفوا، إضافة إلى العدد الهائل للقتلى والجرحى والمعوقين، ان مليوني فلسطيني باتوا يعيشون بأقل من 2 دولار في اليوم، وان نصف الفلسطينيين صار لا معيل لهم سوى المساعدات الإنسانية (أي الاستعطاء من أمم الأرض)، ونصف الأمهات حديثات الإنجاب يعانين من فقر الدم، بينما يشكو ربع المواليد الجدد من نقص في الوزن، و17% من أطفال غزة ينوءون تحت وطأة سوء تغذية مزمن.

والشعب الفلسطيني لا يقتل وتهدم منازله بالآلاف على رؤوس الأطفال وحسب، وإنما يعطّش أيضاً وقد يقضي الجفاف في الصنابير والآبار على من لم تقصفه الطائرات (أو تجوعه جرافات اقتلعت مئات آلاف الأشجار المثمرة خلال السنوات الأخيرة)، إذ استولت إسرائيل بحجة جدارها «الأمني» على أكثر من نصف الموارد المائية للضفة الغربية لغاية الآن، ودمّرت 800 بئر كانت تسد رمق الأهالي. ولمزيد من الوضوح فإن التقرير يحمل كامل المسؤولية للاحتلال الذي خلق في الأراضي المحتلة «أسوأ حالات الركود في العصر الحديث».

لكن الأرقام باتت خرساء بدليل أن حكومات «حقوق الإنسان» لم تنتفض ضد إسرائيل كما فعلت من أجل إنقاذ ضحايا دارفور، أو الثأر لمسلمي البوسنة. والأدهى من ذلك أن غالبية المجتمعين خلال «المنتدى العربي الدولي حول إعادة التأهيل والتنمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة»، الذي انعقد في بيروت خلال الأسبوع الماضي، وقرئ التقرير بحضورهم، كانوا يتشاورون في سبل مساعدة الفلسطينيين، لا وسائل ردع إسرائيل وطردها. فممثلو الدول والهيئات المدنية العربية تكلموا مشكورين عن كرمهم في توزيع المعونات وتدريب الأطباء وتوضيب الأدوية، وهذا أحسن من لا شيء. لكن وكأنما الأوروبيون استفاقوا لحظة تعب العرب من فلسطين وتعبت منهم. ولم يتوان السيناتور البلجيكي بيير غالان «رئيس الجمعية الفلسطينية البلجيكية» عن تأنيب المتكلمين ليذكرهم أن رأس الحربة هو الاحتلال، وان جهودهم ليست سوى مسكنات ما دام الداء مستفحلا.

المضحك المبكي أن السيدة الهولندية الثائرة فراو دوزنبرغ، زوجة رئيس المصرف المركزي الأوروبي، التي أثارت زوبعة في بلادها العام الماضي، حين رفعت العلم الفلسطيني العملاق على شرفتها، وما تزال تضرب بسببه بحبات البيض والطماطم، قد تبرعت بالعودة إلى لبنان للمثول امام مجلس النواب اللبناني لتحدث ممثلي الشعب عن معاناة الفلسطينيين في بلاد الأرز، لأنها لم تحتمل رؤيتهم في الوضع المزري الذي هم فيه، رغم ان أكثر من ثلاثة ملايين لبناني من إخوتهم في العروبة لا يشعرون بالواجب نفسه ولا الاندفاع الثوري عينه.

السيدة فراو توعدت شارون من لبنان بأنها ستضعه مع ميلوسوفيتش المسجون حالياً على ارض موطنها في «لاهاي» إن تجرأ وزار هولندا. وهولندا هذه التي كانت تعتبر من أكثر دول أوروبا تعصباً لإسرائيل ولأمنها، حيث كان سكانها لعقد مضى، لا يعرفون أين توجد فلسطين على الخريطة، هي التي منحت محمود درويش (شاعر الثورة شاء أم ابى) جائزة الأمير كلاوس منذ عدة أيام فقط.

كان كلام العرب عن فلسطين في جلسات المنتدى يثير النعاس لنمطيته، أما حيوية الخطاب الأوروبي الحماسي الناقم على حكوماته التي لا توقف اتفاقات الشراكة الأوروبية ـ الإسرائيلية فكان حماسياً وقوياً وواثقاً، يستمد وقوده من إيمان معتق بالحرية والمساواة. فالفرق بين العربي والغربي في المنتدى لم يكن في نوعية القناعات، وإنما في أسلوب التعبير عنها. وإن كانت بعض الهيئات المدنية العربية قد اتخذت مبادرات على الأرض مثل الهلال الأحمر القطري فإن بعضها الآخر يظن أن الكلام يسد جوعاً أو يعيد ميتاً إلى اهله.

آمن الاسرائيليون دائماً بمقولة شاتوبريان «إذا أردت لكذبتك أن تتحول إلى حقيقة واظب على تكرارها»، وفي زمن الدعاية والإعلان الذي نعيش، بإمكانك أن تضيف إلى الجملة السابقة عبارة «وبأساليب متغيرة كالحرباء»، كي تحصل على الوصفة السحرية لصناعة الأكاذيب العصرية. فلم تيأس إسرائيل المدججة بالأسلحة الفتاكة والقادرة على إبادة سكان المنطقة عن بكرة أبيهم من صم آذان سكان الكوكب بتكرار لازمة «خوفها على أمنها»، حتى صار بمقدورها أن تقتل الفرد الذي تريد اغتياله بعدد من صواريخ الطائرات وتمزقه إرباً. وبدعة إسرائيل الإجرامية الجديدة التي تستبدل المسدس بطائرة لاغتيال مخلوق بشري واحد، هي من أحدث المبتكرات الأمنية التي تجلب الجنون للآمنين وتحول من لم يمت منهم إلى مشروع إرهابيين جاهزين للتأهيل.

كرر الأوروبيون المشاركون في المنتدى، ولمرات عدة ان الرأي العام يتغير بسرعة، وأن المشاهد الآتية من الأراضي المحتلة باتت تفوق قدرة الناس على الاحتمال، وذكر احدهم بالاستفتاء الذي أثار ذعر إسرائيل حين اعتبر 62% من الأوروبيين انها دولة خطرة.

لا نسوق هذا الكلام كي يستمر العرب في سبات الموتى، وإنما ليشعر كل ذي نبض أنه لا تجوز الاستكانة عندما تكون الظروف مؤاتية. وأن أميركا ذاتها اليوم كما تقول مجلة «لير» الفرنسية في عددها الأخير، تتصاعد فيها أصوات النخب الاحتجاجية على سياسات الحرب والدمار. وتشرح المجلة في ملفها الممتع كيف أن كبار الكتاب والأكاديميين ونجوم الأغنية وهوليوود والمسرح يشعرون ببغض وحنق من سياسات لا تجلب سوى الكراهية والدمار.

الغرب لم يصبح عروبياً أكثر من العرب، لكن من الفطنة، قراءة مؤشرات التغيير، ومعرفة المفاصل الحاسمة والزوايا الحادة من المنفرجة، وإطلاق الحملات حين تكون الرياح مؤاتية، ولنا أن نشعر بالغيرة من المشروع الأوروبي الذي يضم عدة هيئات أهلية خصصت نصف مليون دولار لإطلاق حملة إعلامية عنوانها: «إزالة الجدار العنصري». وهناك مشروع عربي ـ اوروبي أهلي مشترك، ينعش الآمال، ممول بنصف مليون أخرى هدفه إعادة زرع مليون شجرة كانت قد اقتلعتها إسرائيل. وقد يبدو الأمر ساذجاً للبعض لكن كاتبا إسرائيليا يدعى يهودا ليطاني يقول العكس تماماً، ويعتبر ان معركة أشجار الزيتون، زراعة واقتلاعا وحصادا واغتصابا، هي من أكبر المعارك الرمزية بين الشعبين العدوّين، وان الفلاحين الفلسطينيين يدركون بعمق شروط اللعبة، حتى باتوا يبادرون إلى تكثيف زراعة أشجار الزيتون في الأراضي المعرضة للمصادرة. وإمعانا في الظلم وممارسة فعل الاغتصاب قررت إسرائيل هذه السنة (ونحن الآن في عز موسم الزيتون) أن تقصر قطافه على ثلاثة أيام بدل خمسة أسابيع، مانعة بذلك القرويين من الوصول إلى أرزاقهم ولملمة حبات زيتونهم. أو ليست المعركة هي على حفنة تراب وحبة زيتون وحجر وعَلم وبارقة أمل، من أجلها يشمر فلسطينيو الضفة عن سواعدهم. فكم كان محقا مونتسكيو حين قال: «أحب الفلاحين لأنهم ليسوا علماء بالقدر الذي يجعلهم يفكرون بطرق منحرفة ومواربة».

[email protected]