شيء من عودة

TT

ظهر في الآونة الأخيرة عدد من القنوات العراقية. وبدأت تعرض برامج، بعضها مقبول وبعضها خال من الخبرة والنضوج. وظهرت ايضاً عشرات الصحف والمطبوعات، بعضها يحمل نتاج المواهب العراقية المخبّأة منذ عقود، وبعضها يحمل الفوضى وأي كلام. وعندما يهدأ العراق سوف نرى نهضة واسعة في الفنون والآداب والشعر، قادمة من جديد، من الكوفة والبصرة وبغداد. فأول شيء يطل مع الحرية هو الابداع والتجلي والتعبير عن مشاعر الشعوب. والصورة الحقيقية للناس لا يعطيها سوى الشعراء والكتَّاب والفنانين. وفي الماضي كان مفروضاً في كل موهبة أن تكون في عبودية الحاكم. النحاتون ينحتون تماثيله والشعراء يرمون القوافي على قدميه، والمفكرون ينظرون لعبقريته والمؤرخون يلوون الحقائق والوقائع من أجل ألا يكون في التاريخ أحد سواه. وفي النهاية يحدث التطور الحتمي: يصدق المستبد كل التخيلات التي أمر بصنعها. ويقتنع بأن التزييف هو الحقيقة. ويصبح مرعباً بالنسبة إليه ان يتوقف قليلاً للتأمل في النفاق. فقد اصبح النفاق مصلحة مشتركة ودخل عام. وهذه المصلحة لا يدخلها فقط المعوزون والمضطرون والمرغمون والمستعبدون، بل يتطفل عليها المتسابقون من الخارج، يقطفون من شهد الكذب ويرشون بذور الرياء دون اي وجل أو حياء.

أبعد من شخصية في تراجيديا (او كوميديا) يونانية، ان نرى دوراً في العراق لرجل مثل فلاديمير جيرونوفسكي. فالمأساة ليست في المهرج الذي ظهر اسمه في فضيحة «النفط مقابل الغذاء»، بل في ان يشعر الحاكم العراقي الخائف والمعزول انه في حاجة الى هذا النوع من مثيري الضحك والشبهات. وقد صدر في موسكو نفسها كتاب بقلم رئيس دار «مير» للنشر، حيث عمل جيرونوفسكي محامياً لسنوات. وفي هذه السيرة يقول الكاتب ان جيرونوفسكي رجل ذكي، بل بالغ الذكاء، قرر ان يرتدي ثوب التهريج لأسباب محض مالية. وقرىء هذا الكتاب في كل مكان، الا في بغداد وطرابلس. او بالأحرى كان صدام حسين يقول في نفسه، ماذا يهم ما دام الشعب العراقي نفسه لم يقرأ.

يقتضي دائماً ان نعيد قراءة التاريخ السوفياتي، الذي حاول العراق الصدامي نسخه حرفاً حرفاً. كيف مات الشعر والأدب والفنون مع مجيء ستالين لأنه لم يكن يطيق موهبة أكبر منه، او اسماً ألمع منه. وقيل في زمنه ان الموهبة الوحيدة المسموح بها هي «الموهبة الموسكوبية». او «موهبة موسكو». وكان شغل اصحابها ان يقضوا على اي موهبة تظهر داخل الحزب او بين الناس. وفي الوقت الذي كان يلمع في الغرب كبار الاسماء في الفلسفة والادب والفنون، كان ستالين يطمر اسماء مثل بوريس باسترناك (دكتور جيفاغو) وآنا احماتوفا، الشاعرة التي قتل زوجها ووالدها، وابقي عليها في الحياة بسبب قرار شخصي من ستالين مع ان «الموسوعة السوفياتية الادبية» صنفتها بأنها «نصف شاعرة، نصف مومس»، كما يقول اشعيا برلين، الذي زار روسيا في الاربعينات. ولم يدرك برلين الى أي مدى يهدد حياة الشاعرة ووضعها في الخطر عندما قابلها في موسكو، الا بعد سفره. ويعتقد برلين ان التأثير الاساسي على ستالين عائد الى نابوليون الذي امر باسكات النقد في كل الحقول، لكي لا يصل الامر في النهاية اليه.

بعد وفاة ستالين فاز باسترناك بجائزة نوبل. ودخلت احماتوفا تاريخ الشعر الروسي. لكن في ايامه كان كل اسم يلمع يلقى الموت او سيبيريا. وفي العراق اختفى طوال ثلاثين عاماً الشعراء والادباء، وأصبح الروائي الوحيد هو صدام حسين. وليبيا التي اعطت الشعر العربي محمد الفيتوري والمفكر العربي ذلك المتفرد الصادق النيهوم، لم تخرج منها رواية مرفقة بشيء من الاستقبال، الا روايات العقيد القذافي التي ترجمت كذلك الى عدد من اللغات. لا نستطيع ان نقيس الآن مدى النهضة في العراق. لا يزال الامر مبكراً. اولاً لأن الخوف من الصعب ان يخرج بسرعة من النفوس ويصدقوا ان اي تمجيد او ذكر بغير سيادة الرئيس القائد، لا يؤدي الى السجن. وثانياً لأن الفوضى تعم الحياة العامة في كل شيء. لكن لا شك انه ولد من جديد بلد مليء بالطاقات الفكرية والادبية والعلمية. انتظروا فقط نهاية الفوضى. لا إبداع بلا حرية.