على مشارف مئوية محمد عبده .. توفيقية الإمام ونقد العروي

TT

تقترب ذكرى مرور مائة سنة على وفاة الشيخ محمد عبده، وتدعونا الذكرى إلى معاينة جوانب من نتائج مشروعه في الإصلاح العقائدي وإصلاح أحوال تأخر الأمة في مختلف تجلياته. ولعلها تسمح لنا بإعادة قراءة نصوصه وتركيب أسئلته، ومحاولة تجاوز المنحى العام الذي اتسم به تفكيره، من أجل كشف محدودية الفكر الأصولي ومحاولة استيعاب شرارات التجديد التي تضمنتها.

واجه محمد عبده طابور فقهاء حراسة التقليد والتواكل، وحاول الدفاع عن ضرورة التواصل مع الآخرين في العالم والاستفادة من منجزاتهم في مجالات المعرفة المختلفة. ونواجه اليوم كثيراً من التصورات المختلطة في النظر إلى ذاتنا التاريخية وإلى علاقتها بأسئلة الحاضر، أسئلة التاريخ والمجتمع والسياسة والتقدم. وهو الأمر الذي يدعونا إلى مزيد من العمل الهادف إلى غربلة التركة التراثية بفحصها ونقدها في ضوء إشكالات حاضرنا المفتوح على أزمنة وثقافات متعددة.

ضمن هذا الإطار تحضر الذكرى المئوية الأولى لتدعونا إلى مراجعة أطروحة محمد عبده في الإصلاح وطرائقه في المواءمة بين الإسلام ومتطلبات الأزمنة المعاصرة. وتقدم أعمال الشيخ الكلامية والسجالية (ردوده على فرح انطون في موضوع الاضطهاد في الإسلام والنصرانية) الصورة المؤسسة لفكر إصلاحي لا يتردد في بناء ما يسمح بتواصل ايجابي مع الفكر المعاصر والمجتمع المعاصر. ورغم أنه عاصر فترة المد الاستعماري في عنفوانها وتصاعدها فإنه لم ينظر إلى الغرب الاستعماري (فرنسا وبريطانيا)، نظرة عداء مطلق، بل حاول فهم المتغيرات الموضوعية الجارية في العالم في زمنه، وقدم في مجمل أعماله وهو يفكر في واقع المجتمعات الإسلامية، جملة من التصورات والأفكار الهادفة إلى إعادة النظر في العقائد الفاسدة، بهدف إنجاز ما يمكن المسلمين من الاندماج في الأزمنة الحديثة.

اتجه محمد عبده في مختلف أعماله للرد على الذين يربطون تأخر العالم الإسلامي بالإسلام، محاولاً التركيز على مبدأ لزوم المواءمة بين المبادئ الكبرى للعقيدة الإسلامية والمبادئ الكبرى الناظمة لمكاسب الحضارة المعاصرة. وقد شكل المنزع التوفيقي كما قلنا السمة الأبرز في مشروعه في الإصلاح.

ضاق محمد عبده بفكر المشايخ المحافظين الذين حرفوا الإسلام وأشاعوا التقليد والتواكل، وحاول بناء الجسور التي تجعل الإسلام قادراً على مواصلة حضوره في مجتمع جديد، وقد اتجه في ردوده على فرح أنطون، المصلح العربي المقتنع بكونية المشروع الثقافي الغربي المعاصر، إلى إبراز دور الإسلام في التطور التاريخي، موضحاً أن المآل الراهن للمسلمين لا علاقة له بالإسلام ومبادئه الكبرى المساعدة على التحرر والتقدم.

وفي نصوص العروة الوثقي التي حررها بمعية الشيخ جمال الدين الأفغاني، انتقدا معاً أدوار الاستعمار في تفريق المسلمين وتمزيقهم، وحاولا إبراز دور الرابطة الإسلامية والجامع الإسلامي في توثيق عرى العالم الإسلامي وفي مواجهة حربه على الإسلام والمسلمين.

لم تكن الدعوة الإصلاحية لمحمد عبده متسقة من الناحية النظرية، فقد ركبت معطيات موصولة بجوانب من الفكر الإسلامي في العصر الوسيط مع معطيات تنتمي إلى مجال معرفي مغاير، وساهمت في بناء نص يروم رد الاعتبار لذات تاريخية محاصرة بتاريخ جديد وعدة تراثية تتسم بالطابع التكراري المحافظ والمغلق، وهو الأمر الذي دفعه للعمل على إيجاد صيغ التوافق التي تسمح بإصلاح العقائد السائدة بتكييفها مع مقتضيات الواقع الجديد، واقع الأزمنة الجديدة المستوعبة لثورات في العلم والفلسفة والسياسة والتقنية.

لم يتردد الشيخ، منذ بدايات دعوته، في نقد شيوخ التقليد الذين حرفوا العقيدة ونشروا في الجمهور ما عزز التأخر وضاعف نتائجه، ومهد الطريق للاحتلال الاستعماري القائم، وفي هذا السياق أصدر الفتاوى الرامية إلى تيسير عمليات الاندماج الاجتماعي والتاريخي في مناخ الأزمنة الحديثة والمعاصرة.

لا تناقض في نظر الشيخ بين الإسلام ومكاسب الكشوف العلمية، فالإسلام دين مع العلم والمدنية، وعندما نقترب من عوالمه بوسائل الاجتهاد المتاحة، فإننا نتبين قدرة رسالته على تجاوز الإرث التراثي الذي أصبح يشكل عائقاً أمام صيرورة التغير والتطور التي تعد السمة الأساسية الملازمة للتاريخ.

نعثر في منزع الاجتهاد بالمواءمة الكامن في منطوق وثنايا نصوص الشيخ المصلح، على عناصر تروم تحرير الخطاب الديني من آليات التصلب التي ركَّبها ميراث التقليد الذي ساد طويلاً في منظومة الفكر الإسلامي، لكننا نكتشف في الوقت نفسه حدوده ومحدوديته، ذلك أنه لم يكن بإمكان محمد عبده أن يتجاوز سقف المواءمة المولدة للمفارقات المعروفة في خطابه وخطابات النزعة التوفيقية في الفكر الإسلامي المعاصر. ويعود السبب في ذلك إلى عوامل متعددة أبرزها مقتضيات الظرفية التاريخية التي تبلور فيها خطابه، حيث حاول قبل ما يزيد عن مائة سنة، إشاعة فكر يروم نقد محصلة التقليد الإسلامي دفاعاً عن لزوم تحريك آليات التجديد والاجتهاد، بهدف إقامة ما يسمح بالتوفيق بين العقيدة ومتطلبات الانتماء التاريخي إلى أزمنة جديدة. ولم تكن هذه المهمة بالأمر الهين، ولعلها ساهمت بتفتحها الخجول على مكاسب الحضارة الغربية، ودعوتها المترددة إلى تجسير الفجوات القائمة بيننا وبين الآخرين الذين يملكون اليوم زمام التقدم، لعلها ساهمت في بناء القواعد النظرية الكبرى لاختيار إصلاحي تواصل بأشكال مختلفة في ما تركه المصلحون الذين تابعوا منطق محمد عبده الإصلاحي المتمثل في التفكير في المواءمة الرامية إلى تحصين العقيدة ومنحها سُبُلَ مواصلة حضورها في التاريخ من دون إغفال شرط الاستعانة بمكاسب ومنجزات الأزمنة الحديثة. عندما نتأمل المشروع الإصلاحي لمحمد عبده اليوم في ضوء ما آلت إليه أوضاع المسلمين في العالم، وفي ضوء صور التعامل السائدة في التيارات الظلامية الرافضة لمبدأ التكيف والمواءمة مع متطلبات التاريخ الجديد، نقف على الانتكاسة الفظيعة التي عرفها مجال تطور الأفكار والعقائد في فكرنا وفي مجتمعاتنا، فقد انقلبت إرادة التوفيق إلى إرادة محافظة متصلبة، إذا لم نقل إرادة جاهلة وحاقدة. وتم إطفاء الشرارة الايجابية المشتعلة في تصورات محمد عبده، الشرارة المتمثلة في إدراكه القوي لأهمية التواصل مع الآخر في العالم، بغية الاستفادة من مكاسبه التاريخية، قصد مواجهة مظاهر التأخر التاريخي ومجابهتها بالعدة التي أصبحت تتطلبها المواجهة في ظروفنا القديمة الجديدة، ظروف نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ثم ظروف نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، حيث تتشابه معاركنا الجزئية وتُسْتَوعَبُ ضمن معركتنا التاريخية الحضارية الكبرى المتمثلة في مواجهة مصيرنا التاريخي في العالم.

اعتبر عبد الله العروي، وهو يواجه أسئلة محمد عبده في صيغها الجديدة خلال الثلث الأخير من القرن الماضي، أن مواجهة تركة الماضي التراثية تقتضي نقداً لمختلف أشكال التوفيق التي تأسست في الفكر المعاصر، اعتبر أن مذهب الشيخ محمد عبده في الإصلاح هو النموذج الأكبر لمنزع التوفيق والمواءمة في الآيديولوجيا العربية المعاصرة، وعين في كتابه «مفهوم العقل، مقالة في المفارقات»، حدود إصلاحية محمد عبده، ولم تكن غايته دراسة فكر الشيخ دراسة تحليلية كما فعل أحمد أمين في أطروحته عن الشيخ الإمام، بل إنه كان يريد من خلال تركيب النموذج النظري للنزعة التوفيقية في الفكر الإسلامي المعاصر إبراز مفارقات هذه النزعة التوفيقية في فكرنا وفي برامجنا في الإصلاح. وقد لمح في ثنايا بحثه إلى الفقر والقصور النظريين المحايثين لمختلف النزعات التوفيقية، فأصبح نقده لمحمد عبده ينصب على مختلف تجليات النزعة التوفيقية في الفكر العربي، ويشمل أيضاً التوفيقيين الجدد الأحياء الذين لم يتمكنوا من تجاوز آليات اشتغال محمد عبده، مشيراً بذلك إلى مختلف الدعاوى التي ما تزال تمارس في الفكر العربي أساليب التقية وأساليب المخاتلة، وتبني المفارقات التي تسمح بترسيخ منطق الاستمرارية الحافظ لذوات لم تعد تحمل من عناصر ذاتها إلا ما تحن له وإليه، حيث تختلط الرؤى وتتداخل، ويصعب التمييز فيها بين الواقع وبين الأحلام والكوابيس.

يرفض عبد الله العروي كل نزعة توفيقية في مجال الإصلاح، مجال تجاوز التأخر التاريخي العربي، ويعتبر أنه ينبغي تأسيس قاعدة الإصلاح الكبرى على مبدأ وعي التغير بوعي أعطاب الذات ومحاولة تجاوزها بالتعلم من كل ما هو متاح اليوم للبشرية جمعاء، أي بالتعلم من دروس التاريخ، حيث لا ينبغي الركون إلى سقف في التوافق محاصر بتنافر مقدماته مع نتائجه، سقف يغفل لغة العقل والتاريخ رغم مساعيه الرامية لفهم العقل والتاريخ. أنتجت إصلاحية محمد عبده وهي تحرص على المواءمة خطوة في درب الإصلاح الطويل والمتواصل، لكنها بنت كثيراً من المفارقات المعززة لازدواجية وتناقض الواقع.. ولم يشكل مشروعه لحظة انتقالية عابرة كما يمكن أن نتصور، بل ان تلاميذه من رشيد رضا إلى جماعة الإخوان المسلمين إلى تيارات الإسلام المتطرفة اليوم، انقلبوا على ازدواجيته وتوفيقيته، ورفضوا مواءمته، وذهبوا في ذلك مذهباً قصياً معلنين ضرورة مواجهة ما اعتبروه «جاهلية القرن العشرين». لقد كسروا جسور التوافق التي ركبها الشيخ في أعماله وتصوراته، وعدنا معهم إلى درجات من الفهم لا علاقة بينها وبين ما كانت تحمله إرهاصات الإصلاح في نصوصه من علامات مضيئة. واليوم بعد مرور مائة سنة على رحيله نعود لمواجهة مشاكل الإصلاح في عالمنا، فهل ننجح في تركيب آليات جديدة في التشخيص والتعقل واستشراف الآفاق؟