تحديث الخطاب الديني .. والميدان المفكك

TT

تساءل الصديق سعيد بنسعيد العلوي، المفكر المغربي المرموق «من يمتلك شرعية الحديث عن التجديد؟»، معتبرا أن هذا السؤال يكتسي أهمية بالغة في الوقت الحاضر، الذي تعمق فيه الوعي بضرورة التجديد الديني لإخراج الأمة وفكرها من المحنة والجمود.

وقد يكون مردُّ راهنية هذا السؤال ما ندركه جميعا من تراجع بل وانحسار نموذج العالم الديني بمفهومه التقليدي المألوف، الذي يجمع بين وظيفة معرفية ترتبط بنظام التعليم وطبيعة المؤسسة التربوية ووظيفة اجتماعية تقتضيها إدارة الحقل الديني في علاقته المعقدة بالسلطة والمجتمع الأهلي.

فهذا النموذج فقد جانبا كبيرا من زخمه ونجاعته الفعلية، لأسباب بديهية لها علاقة بالتغيرات الجذرية التي عرفها النظام التربوي التعليمي وحقل السلطة السياسية والحقل الديني نفسه.

ومع أن جل البلدان الإسلامية، إن لم نقل كلها (باستثناء تركيا)، حرصت على الاحتفاظ للحقل الديني ببعض الوظائف الأساسية، فضلا عن اعتباره من أسس المشروعية ومن المصادر الأساسية للتشريع، فنصت في دساتيرها على أن الإسلام هو دين الدولة، وأنشأت هياكل رسمية للإفتاء وتنظيم الشأن الشعائري، إلا أنه من الواضح أن البنيات المؤسسية للحداثة التي استعارتها الدولة الإسلامية المعاصرة وسعت لاستنباتها وتبييئها، تقوم في منطقها العميق على مبدأ الفصل بين الحقول الاجتماعية التي تتجاوز الرؤية العلمانية في جوانبها النظرية والعقدية.

أي بعبارة أخرى، إذا كانت تجربة الدولة القومية في الغرب الحديث قامت على النظام اللائكي (على اختلاف واسع في فهمه وتحديد علاقته بالمؤسسة الدينية)، فإن لهذا النظام جانبان، نظري ـ عقدي هو موضوع مقاربات متباينة، ومؤسسي إجرائي لا يكاد يختلف من بلد لآخر وأساسه آليات ثلاث هي:

1 ـ إدارة التعددية السياسية عن طريق الانتخاب والاختيار الحر ومن ثم بناء المشروعية السياسية على مبدأ المواطنة والتعاقد المدني.

2 ـ إعطاء الأولوية للمردودية والفاعلية في الشأن الاقتصادي وفي مسالك التنظيم المؤسسي والإداري للدولة.

3 ـ استيعاب التنوع العقدي والقومي في نموذج الدولة الأمة الذي يكرس مبدأ المساواة في المواطنة المشتركة.

صحيح أن لهذه الآليات آفاقها النظرية والمعيارية التي ترتبط بها أثرا وتأثيرا، وهي موضوع جدل فكري واسع ومتشعب، ليس هنا مجال بسط القول فيه، بيد أنها تشكل من دون شك ثوابت عينية لنموذج الدولة الحديثة، لا اعتراض عليها حتى بالنسبة للذين ينتهكونها عمليا. ومن الجلي أن هذه الآليات تؤدي فعليا إلى تقليص الحقل الديني بمفهومه الوسيط، بحيث لم يعد إطار التنشئة التربوية باعتبار قيام نظام مدرسي مستقل ليس للدين فيه سوى موقع ضئيل، كما لم يعد القاعدة المرجعية السياسية التي غدت تستند لاختيار الأمة. ومع أن جل البلدان الإسلامية تتأرجح في تحديدها لدور الدين في التشريع والقوانين، بين اعتباره المصدر الوحيد أو المصدر الأساسي أو أحد المصادر، إلا أن هذا الدور لا يتجاوز في غالب الأحيان مسطرة الأحوال الشخصية.

بيد أن الأهم من هذا كله، هو أن نموذج «العالم» قد انتكس كليا فلم يعد له زخمه الرمزي ولا المعرفي السابق، وعوضته نماذج جديدة تتوزع بين المفتي، وهو موظف رسمي للدولة، والفقيه المتخصص، الذي هو في الغالب جامعي متخرج من كليات الشريعة، والمفكر، وهو صياغة دينية لنموذج المثقف بمفهومه الحديث.

فالحقل الديني إذن تفتت وفقد وحدته، وغدت تتصارع فيه ألوان جديدة، من بينها التنظيمات السياسية المستندة للشعار الديني، وبعض تنظيمات المجتمع الأهلي النشطة في الأعمال الخيرية، وأشكال من الإسلام التقليدي، مثل الطرق الصوفية النشطة في بعض الساحات بأدوار جديدة.

أما العالم بمفهومه التراثي فأصبح نادر الوجود، ولعله لا يتوفر اليوم في البلاد العربية، إلا في موريتانيا، حيث لا تزال المدارس الأهلية العريقة المعروفة بالمحاضر، قائمة تخرج هذا النموذج العتيق، ومن ثم استقطابها المتزايد للطلاب من باقي البلدان العربية والإسلامية.

إن تجديد الدين الذي هو حاجة حيوية وموضوعية لا نقاش حولها، لا بد إذن أن يراعي ما أصاب الحقل الديني من تشتت وتفكك وغياب مرجعية مركزية.

فلم تعد ثمة مرجعيات مؤسسية تنتظم الحقل الديني، على الأقل في الفضاء السني، لا مراكز علمية تربوية مثل الأزهر، ولا دوائر إفتاء بما فيها المجمعات التي ظهرت في العقود الأخيرة ولم تتمكن من أن تنتزع هذه المرجعية.

وليس هذا الوضع بذاته مدعاة قلق أو يأس، بل لعله فرصة غير مسبوقة لفتح باب الاجتهاد الصادق المسؤول أمام الأمة لتجديد أوجه تدينها، بعيدا عن المصادرة والإرهاب الفكري، ومن دون التقيد بضوابط وإكراهات مؤسسية تحد من سقف حرية التأويل.

في هذا السياق يتعين وضع مطلب تجديد الدين ضمن منظور ثلاثي، نعتقده الإطار الإشكالي لهذا الحوار الثري:

1 ـ العلاقة بالمدونة الأصولية الموروثة من حيث هي الشبكة التأويلية لاستكناه النص وقراءته: ما هو الثابت فيها والمتغير؟ وهل لا تزال كلها صالحة وملزمة بالنسبة للمسلم المعاصر؟

2 ـ العلاقة بعلوم التأويل الراهنة التي فسحت المجال أمام أنماط جديدة من المناهج وأدوات التحليل والنظر من شأنها توسيع آفاقنا الدلالية.

3 ـ مقتضيات الكونية الجديدة المــــتولدة عن حركية الحداثة ذاتها التي وصــــلت مستــــوى تحقــقها الأعلى في دينامية الـــــعولمة الراهنة، باعتبار واجب الأمة في تأدية دورها كاملا في صياغــــة هذه الكونية بدل الانكــــفاء، الذي يـــــترجم عقدة التمــــيز والإقصاء، لا المشاركة الفاعلة المسؤولة.

[email protected]