ديمقراطيتان ... في الشرق الأوسط

TT

إذا كان قدر «الشرق الاوسط الجديد» هو الديمقراطية ـ أو، كما يحدده «المحافظون الجدد» في واشنطن، تعايش الديمقراطية والاسلام في دول الشرق الاوسط ـ تبقى أكثر ديمقراطيات العالم قابلية للبقاء تلك النابعة عن توافق ابنائها عليها.

بالنسبة للمحافظين الجدد ، ملامح «الشرق الاوسط الجديد» بدأت ترتسم في افغانستان (حيث أجريت انتخابات لم يجف حبرها بعد عن اصابع بعض الناخبين الاميين، فيما جف بسرعة عن اصابع غيرهم) وفي العراق (حيث السباق قائم بين الفوضى والاستقرار لاجراء هذه الانتخابات في موعدها «المقدس»)... فيما أقدم الديمقراطيات الاسلامية في المنطقة ، اي تركيا، تجهد منذ عقود لكي يعترف الغرب الاوروبي بديمقراطيتها ويضمها الى ناديه.

من المكابرة الادعاء بان الديمقراطية التركية منزهة عن اي شائبة. ولكنها ديمقراطية قائمة وعاملة، ومهما قيل في شوائبها، فهي تمتاز عن تجربتي افغانستان والعراق بانها لم تفرض ببندقية الاجنبي ولم تكلف شعبها خسارة سيادته لتطبيقها... مع ذلك، لا تزال ذريعة الاتحاد الاوروبي في رفض عضوية تركيا الكاملة في ناديه تسجيله لانتهاكات لحقوق الانسان لا تقاس، من قريب او بعيد، بالانتهاكات المرتكبة لحياة الانسان، باسم الديمقراطية في العراق وافغانستان.

لو كان للمنطق فسحة في دبلوماسية الغرب حيال التطبيق الديمقراطي في الشرق الاوسط لكان التعجيل بانضمام تركيا الى الاسرة الاوروبية والتمهل بـ«دمقرطة» العراق وافغانستان المقاربة الاسلم لهذه الدبلوماسية، فانضمام تركيا الى النادي الاوروبي ليس الضمانة الفعلية لتطوير الديمقراطية التركية فحسب، بل النافذة التي يطل منها العالم الاسلامي، سياسيا، على الغرب ... والغرب على العالم الاسلامي.

ولأن الديمقراطية، في نهاية المطاف، مجموعة قواعد لتصرف سياسي معين، وليست اعلانا لقيم اخلاقية تستدعي التنكر للتراث الاسلامي، قد تتحول تركيا الاوروبية الى الدولة النموذج لنقل «عدوى» التجربة الديمقراطية الغربية الى الشرق الاسلامي، طوعا لا قسرا، فتلعب، الى حد ما، الدور الذي لعبته الاندلس في تقريب الشرق من الغرب حضاريا.

ولكن المشكلة قد تكون في ان بعض حروب العالم لا تنتهي... وان وضعت اوزارها عسكريا.

وإحداها، قطعا، الحروب العثمانية ـ الاوروبية.

ولأن قبول الاوروبيين لتركيا عضوا كاملا في الاتحاد الاوروبي قد يؤشر الى نهاية هذه الحروب (المستمرة بمسميات أخرى)، تخلت بعض العواصم الاوروبية عن دبلوماسيتها لتكشف، صراحة، ان السبب الدفين لمعارضتها عضوية تركيا لا يعود الى انتظار اكتمال اعادة تأهيل ديمقراطيتها بقدر ما يعود الى المحاذرة من نقل خط التماس بين العالمين الاسلامي والمسيحي من بيزنطة (اسطنبول) الى بروكسل، اي قلب القارة الاوروبية.

بلغة المعطيات السياسية الواقعية، تتخوف هذه العواصم من ان يستتبع انضمام تركيا الاسلامية، بملايينها السبعين، الى الاتحاد الاوروبي، تحولها الى الدولة الاوروبية الثانية، بعد المانيا (82 مليون نسمة)، من حيث حجم التمثيل النيابي في برلمان الاتحاد ، ما قد يؤدي الى «تحجيم» الدول الكبرى في الاتحاد، مثل بريطانيا (60 مليون نسمة) وفرنسا (60 مليون نسمة) وايطاليا (58 مليون نسمة) واسبانيا (40 مليون نسمة).

ورغم ان ذلك لا يعني عودة الباب العالي الى عزه الامبراطوري الغابر فهو يتيح لـ 70 مليون مسلم تركي مشاركة الاروبيين في قرارهم السياسي، وقد يفسح في المجال لتعزيز كلمة الدول الاسلامية والعربية في بروكسل.

ولكن بين تحرق الولايات المتحدة ، الى حد التسرع، لفرض ديمقراطية مستوردة في افغانستان والعراق، وتأني أوروبا، الى حد التردد، في قبول تركيا في ناديها، يصبح التساؤل واجبا عما إذا كانت الديمقراطية المقترحة لـ«الشرق الاوسط الجديد» نابعة عن قناعة ايديولوجية تعود جذورها الى الرئيس الاميركي التاريخي، توماس جيفرسون، أم هي إحدى الإفرازات الاستراتيجية لـ11 سبتمبر (ايلول) 2001... وبالتالي مرشحة لان تزول الحاجة اليها مع زوال دوافعها؟