تاريخ بالمايونيز

TT

ينسب التوحيدي للشيخ محمد بن أحمد الأزدي قوله: «ان الانسان قيل له إن العالم الصغير سليل العالم الكبير لأنه يصور بيده كل صورة ويحكي بفمه كل صوت ولأنه يأكل النبات كما تأكل البهائم ويأكل اللحم كما تأكل السباع ويأكل الحب كما تأكل الطيور، ولأن فيه أشكالا من جميع أجناس الحيوان».

وقد نسي الشيخ في معرض اعجابه بالكون الأصغر الذي انطوى فيه الكون الأكبر كما قال شاعر مهجري ان يضيف سلبية صغيرة الى ذلك العالم الصغير الذي أفسد ميزاته كلها حين اخترع التاريخ.

ان لم يكن عند الجنس البشري كله فعند العرب على الأقل التاريخ مصيبة كبرى وتبدأ الأمور بتاريخ العائلة (علم الأنساب) لتصل الى السجل الكوني الذي نسميه مجازا التاريخ الحضاري مع انه ليس فيه ذرة حضارة فثلاثة أرباعه عنف وتدمير وسباحة متوحشة في الدماء.

ولأمر يسهل تفسيره نحس بالتاريخ العربي مكثفا في شهر رمضان، اذ لا يخلو الأمر من معركة بعد الإفطار وجلسة سمر تراثية قبل السحور وأمير في هذا المسلسل وخليفة في ذاك وهما دوما من النقيض الى النقيض اما الظلم كله أو العدالة جلها مما يدفعك الى التساؤل ما دمنا قد كنا بهذه العظمة التي تصورنا بها مسلسلاتنا فلماذا لا نعثر على صفحات حقيقية من العدالة والحرية؟ ولماذا لم يمتد تأثير ذلك المناخ الى حياتنا المعاصرة التي أقنعت نفرا منا ان الطريق الى الحياة المثالية يبدأ من العودة الى الكهوف؟

نعم آمنا وصدقنا عندنا تاريخ مديد خمسة آلاف سنة وثلاثة آلاف وألف وخمسمائة، لكن ماذا نفعل بهذا التاريخ كله هل ننقعه مع مرقة قمر الدين لنشربه مع التمر؟ أم نضيفه الى خميرة الخبز لننسى هوان حاضرنا ونأكل خبزنا كفاف يومنا مجللا بالمجد والغار؟

هل نخلط التاريخ بالمايونيز ونضيفه الى مشهيات الإفطار؟ أم نحيله الى وسائد مريحة نتكئ عليها بعد ان نشبع ونتجشأ؟ أم نكتفي كما نحن منذ اختراع التلفزيون بتحويله الى مسلسلات؟

عشرات الأسئلة تضج في الرأس كلما رأيت عمامة هنا وبرنسا وعباءة هناك، فالتاريخ في رمضان ينافس التراويح والأذان ويضغط بثقله على الروح لتختفي الأسئلة جميعها ويظل منها ذلك السؤال الذي نطرحه على أنفسنا منذ مائة عام ولم نجد جوابه الى الآن.

ماذا نفعل بكل ذلك التراث والتاريخ الضخم الذي أحالته بعض الشعوب الى أجنحة تحلق بها واحلناه الى قيود؟

هذا هو وقت التأكيد على أن طلب العلم عبادة واننا يجب أن نطلبه حين يتعلق الأمر بالتاريخ في الصين واليابان على وجه التحديد، فأميركا ليس عندها ما تعطينا اياه على هذا الصعيد لأن تاريخها بالكاد يرقى الى ثلاثة قرون.

في الصين واليابان حيث التاريخ كما عندنا يمتد عميقا ومديدا وثريا واجهتهم المشاكل التاريخية والتراثية ذاتها التي تواجهنا واستطاعوا، وخصوصا في اليابان أن يتعاملوا مع تعقيداتها وأن يتجاوزوها وأن يحيلوا التراث الى عنصر قوة وحيوية لا خلية ضعف وخذلان. هناك أحالوا فرسان الساموراي الى معلمين والكهنة الى موظفي ضمان اجتماعي وأعادوا تأهيل المشعوذين والمتعيشين من الكتب الصفراء وزرعوهم بإتقان في المؤسسات العصرية لاتقاء شرهم ومنعهم من ترويع الآمنين.