سلامتك

TT

اذا كنت مثلي تعتقد ان لكل قصة بداية ووسطا ونهاية فعليك ان تعيد النظر. بعض القصص لا نهاية لها خاصة تلك التي تتعلق بالعاطفة. الحب الاول مثلا يبدأ ويتعثر في طريق الالم والندم وبُعد المنال ثم يتراجع تحت ركام التجارب والاحداث ومضي الزمن. ولكن ذكراه لها خصوصية وقيمة مستقلة تبقيه مرسوما على جدران الروح مثل الايقونات الثمينة التي نحميها من البلي بعيدا عن الضوضاء والوهج.

وقبل ان اتهم بالرومانسية المفرطة اقول ان تلك الذكرى لا تؤثر ولا تتأثر بالعلاقات الانسانية التي تشكل حياة الفرد فيما بعد. وانما هي مرجعية نفسية مثل زهرة مجففة بين صفحات كتاب قد لا تفتحه إلا مرة كل عام او عشرة او عشرين.

لو لم اكن من عشاق السينما كفن شامل يضم كل الفنون التشكيلية والمسرحية والموسيقية ايضا لما فتحت هذا الموضوع. فقد شاهدت أخيرا فيلما امريكيا بعنوان «قبل الغروب»، الفيلم من اخراج ريتشارد لينكليتر وبطولة ايثان هوك وجولي ديلبي، وهو فيلم دفعني دفعا للتساؤل عن تلك الاستمرارية النفسية لقصص الحب الاول التي لا نهاية لها.

قصة الفيلم تتمحور حول لقاء ثان بين رجل وامرأة التقيا للمرة الاولى قبل تسع سنوات حين كان كل منهما في بداية الشباب. جيسي أمريكي وسيلين فرنسية. التقيا في قطار يقطع مدينة فيينا. في ذلك اللقاء الذي دام 14 ساعة لا اكثر فعل الشباب فعله وتفجرت مشاعر الطرفين بحيث تصور كل منهما ان الحميمية التي جمعت بينهما لا نهاية لها. ويستمر جيسي في رحلته، وسيلين في دراستها، بعد ان يتعاهدا على لقاء ثان بعد 6 شهور. ويتدخل القدر بموت جدة سيلين في اليوم المحدد للقاء فلا تذهب للموعد. فيتأخر ذلك اللقاء الثاني تسع سنوات كاملة. سيلين تتخرج وتتبنى قضايا سياسية وبيئية وتؤلف اغنية عن الحب الذي كان، ولكن الذكرى لا تحول بينها وبين علاقات اخرى . جيسي يصبح كاتبا مشهورا لأنه يكتب كتابا عن لقائه بها ويصبح الكتاب جواز سفره الى النجاح والشهرة. وفي غضون السنوات التسع يتزوج وينجب. ثم تأتي به الاقدار الي باريس كجزء من رحلة الترويج لكتابه. وباريس هي المدينة التي تقيم فيها سيلين وتعمل. وتلتقي به في المكتبة التي يستقبل فيها قراءه .

المتفرج شاهد على اللقاء الذي تدعوه اليه كاميرا شديدة الحساسية يحركها مدير التصوير لي دانيال بسلاسة . تتابعهما الكاميرا وهما يحتسيان القهوة في أحد المقاهي الباريسية ثم يتجولان في الشوارع الخلفية اثناء حديث لا ينقطع طوال 80 دقيقة هي مدة الفيلم. في مركب يتهادي على مياه نهر السين وفي المقعد الخلفي لسيارة اجرة تستعد لنقل جيسي الي المطار للعودة الي نيويورك يستشف المشاهد من خلال الحوار بين البطلين ما يفعله العمر والتجربة في قلوب البشر. كلاهما يظل يطرح اسئلة ويبحث عن معنى ويدهش قليلا بلا حزن ولا اسف للدور الذي يلعبه القدر في تحريك مسارات الحياة.

حين خرجنا من دار العرض سألت ابنتي: ما رأيك ؟ قالت فيلم ممتع لأن الحوار بينهما ممتع ودال على حقائق موجعة ، عن الخسران والاحلام التي لا تتحقق. انه يقترح وضع نهاية لقصة لا نهاية معقولة لها.