رسالة من الدانمارك

TT

في العادة اضع ورقة امامي واحمل قلماً وابدأ في الكتابة الى حين انتهاء المقال. نادراً ما اصحح كلمة، او اعيد قراءة سطر. وفي حالات نادرة جداً كل ما اغيّره هو العنوان، اذا ساورني شك بأنه لن يفهم. او انه ملتبس.

اعذروني على هذه المساررة الشخصية والحميمة هذا الصباح. لكنها مقدمة ضرورية لأنني في مأزق. والمأزق يكون عادة في «الورقة البيضاء»، اي عندما يضع الكاتب امامه ورقة ويرى نفسه متجمداً ليس لديه ما يكتب. ومحنتي هذا الصباح معاكسة تماماً. لديّ فيض. وكنت قد ذهبت الى النوم وفي بالي ان اكتب خلاصة حديث هاتفي مع الكويتي الجليل عبد الرحمن سالم العتيقي. فقد اتصل في المساء معلقاً على زاوية حول انقلاب حسني الزعيم. واعطاني تفسيره لأول انقلاب عسكري في سورية. وقال ان الزعيم قام بالانقلاب لأن الحكومات السابقة العريقة رفضت الموافقة على اتفاق حول مد انابيب شركة «التابلاين» عبر سورية. فجاء الزعيم ووقع. ثم دُبّر له ان يقتل على يد سامي الحناوي لكي تضيع المسألة. اما الاتفاق فبقي.

عندما افقت الى صحفي في الصباح وجدتها كلها تحمل بالاحرف الكبرى استقالة الرئيس رفيق الحريري. فقلت في نفسي هل يجوز ان اكتب اليوم، ومن بيروت، عن موضوع او حدث آخر؟ اليس في تقاليد الصحافة ان يعلق الصحافي على الحدث ساخناً، خصوصاً اذا كان على معرفة به؟ لقد كنا في الماضي نقلب الجريدة كلها في الساعات الاخيرة من الليل، من اجل خبر مهم. فهل نكتب، وعندنا كل الوقت، عن احداث سابقة فيما رفيق الحريري يترك رئاسة الحكومة في لبنان؟

لا احب الكتابة في الامر. والواقع انني اتجنب منذ سنوات الكتابة في الشأن اللبناني الا اللمم. وكان احد اسباب اعتذاري عن الكتابة في «الرأي» ان رئيس التحرير كان يفضل ان يكون المقال الاسبوعي لبنانياً، يهم اللبنانيين في بلدان طبعات «الشرق الأوسط» وذلك قبل ان تبدأ الطباعة في لبنان ايضاً. اما انا، فقد اصبحت بعد عودتي الى لبنان اواجه حرجاً شخصياً. واصبحت اشعر ان الصداقات واللياقات تحد كثيراً من حريتي، وانها قد تدفعني مع الايام الى الوقوع في الشخصانية وفقدان الميزان الموضوعي وربما الى المشاركة في التستر على اوجه الاهتراء السياسي والتفكك الوطني وانتشار الكيديات والسياسات الصغيرة وبسط ثقافة الاحقاد في بلد صغير. غير قادر على الاحتمال. ولبنان بلد صغير. الجميع يعرفون ماذا يطبخ بسبب الروائح. والاعصاب تتوتر وتشتد في سهولة. والحقائق تضيع. وكلما كتبت شيئاً وجدت من يعاتبني: «لماذا تكشف غسيلنا في جريدة كبرى. لا تنفّر السياح». وفي النهاية اكون انا من ينفّر السياح، وليس القنابل المفخخة، ولا الفجور السياسي، ولا الانحطاط الذي لا يكف البلد عن الانزلاق اليه، ولا المليارات التي تسرق، ولا تردي الطبقة السياسية، ولا فقدان الأمل بالخروج من المأزق... بل زاوية صغيرة في صحيفة.

لا استطيع، في الشأن اللبناني، ان اكون صحافياً فقط. مراقباً ادوّن الاحداث والظواهر. وكان السفير السعودي السابق في ابو ظبي اللواء العقيلي قد طلب مني، ضاحكاً، ان اكتب اي شيء شرط ان اتوقف عن الاستشهاد بشكسبير. وفعلاً تقيدت بالرغبة الى حد بعيد. لكن يا عزيزي السفير، شكسبير هو الذي قال: ثمة عفن في دولة الدانمارك. ما ذنبي انا؟ وبمن تريدني ان استجير.