متى يقرأ الفلسطينيون والعراقيون أبجدية اللاعنف ويتعلمون فك حروفها؟

TT

كان غاندي إذا حزبه أمر وانفجرت أحداث العنف أوقفها بإعلانه الصيام. وحتى تتعلم المقاومة في العراق وفلسطين هذا الدرس، عليها تعلم لغة جديدة ودخول جغرافيا نفسية مختلفة. وطوبى لصانعي السلام لأنهم عباد الله يدعون.

وفي يوم واجه «غاندي» انفجار العنف بين الهندوس والمسلمين في «كلكتا»، وسالت الدماء، فأعلن غاندي «الصيام». حتى إذا شارف على الموت، دخل عليه رجل مفجوع بولده وألقى إليه بقطعة خبز وقال له: كل حتى لا أكون سببا في موتك. تابع: هل تعلم ماذا فعلوا بابني؟ لقد قتلوه. وأنا قتلت من قتل ابني؟ نظر إليه غاندي برحمة وهو بالكاد يفتح عينيه من الإعياء وقال له: هل أدلك على ما هو أفضل مما فعلت فيأخذك إلى الجنة؟ أن تأخذ الولد الذي قتلت أباه فتربيه على الدين الذي كان أباه يريد أن ينشئه عليه. اغرورقت عينا الرجل بالدموع، وانكب على قدمي غاندي فقبلهما. وهنا كانت مظاهر العنف قد توقفت في كلكتا، وهدأ الناس عن ذبح بعضهم بعضا، فقال غاندي لمن حوله: أعطوني كأسا من الليمون.

بعدها بقليل، قرر غاندي أن يزور باكستان وهو يقول، سوف أكشف عن الشيطان الموجود في قلوب الهندوس والمسلمين معا. ولكن لم يتابع حياته، فقد استشهد داعية السلام على يد هندوسي متعصب.

ويذكر «نيلسون مانديلا»، الذي كافح التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، في كتاب مذكراته الشخصية «رحلتي الطويلة من أجل الحرية»، أن ابن غاندي كان يفيض بالسلام، أما هو ومن معه فكانوا يمارسونه باعتبار سياسي.

وهذا الشعور قاله «تولستوي»، داعية السلام الروسي: كنا نؤمن باللاعنف مثل شرب الدواء الذي نعتقد بفائدته ونعاني من بلعه، ولكن غاندي كان قلبا يفيض بالحب.

وعندما جاء «بارباس» إلى المسيح، لم يصدق أذنيه ما سمع من «المعلم» أن يغفر للرومان; فولى مدبرا ولم يعقب، على الرغم من توسل المسيح إليه أن يفتح قلبه فيسمع. وينقل لنا التاريخ أن «المجرم» بارباس، بقي يراوح بين الشك واليقين حتى آمن ومات مسيحياً شهيدا في روما.

وكان بإمكان الرسول الكريم أن يقضي على أبي سفيان وقبليته، ولكنه قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، فحيَّده وكسبه إلى صفه فبنى أمة بالحب.

وربما يميل البعض إلى أنه لو جرت تصفية هذا الفريق ما نشأ ملك بني أمية الجبري، وما تم اغتيال الحياة «الراشدية»، ولكن من يفعل كما فعل الخميني فلا يقول: «اذهبوا أنتم الطلقاء» بل يسلط «الخلخالي»، فيرسل إلى الإعدام طوابير لا نهاية لها من أعداء الثورة، لا يختلف عن «ماوتسي تونغ» في شيء، كما روت «تشينغ يونغ» في كتابها «البجعات البرية». فكلا من الخميني الأخضر وماو الأحمر، بنيا دولتين بالسيف، ولكن محمدا (ص) بنى أمة بالحب إلى يوم الدين.

وفي السيرة نعرف أن الرسول الكريم قال: «لقد رأيت لأبي جهل عذقا في الجنة». وكانت زوجة «عكرمة بن ابي جهل» هي التي أقنعته بالقدوم من اليمن إلى الرسول، والإيمان بدعوته، وكانت نهايته في معركة «اليرموك» التي استبسل في القتال فيها، فكان من حوله يقول له: اتق الله وأشفق على نفسك، فكان يقول: «كنت أقاتل بنفسي عن اللات والعزى فأبذلها لهما أفأستبقيها الآن عن الله ورسوله؟ لا والله ما كان ذلك أبداً».

فهذه هي الحكمة البالغة من تحييد الناس في مواقفهم. وكان بإمكان النبي الكريم أن يقتلهم جميعا، ولكنهم ماتوا من اجل دعوته وليسوا ضده.

وفي نهاية أغسطس من عام 2004، كان حفيد غاندي (آرون) يزور الأراضي المحتلة، ويعرض على الفلسطينيين ممارسة اللاعنف في نضالهم، ليقول: «انه لو كانت الانتفاضة في أيلول 2000، انتفاضة لاعنف منذ بدايتها، لكان من الممكن حل النزاع، فمن شأن اللاعنف أن يعزز التعاطف في العالم ويؤدي إلى المزيد من الضغوط على إسرائيل». ولكن ارتكاس الفلسطينيين كان أن خرجوا من محاضرته التي كان يلقيها كما فعل بارباس مع المسيح.

وفي قصص كل الأنبياء والرسل، كان الصيام مصدرا للطاقة الروحية. وفي الحديث أن من خاصمك فقل له انك صائم. وكان الرسول يقول، ويح قريش أكلتهم الحرب. وفي قناة فضائية تحدث شخص معتبر، فحرض المقاومة العراقية على مزيد من القتل. وكنت قد اجتمعت به في مؤتمر «التعددية» في فيرجينيا عام 1993، وفتحت عينيه على مخاطر العنف قبل أحداث سبتمبر بفترة طويلة. قال لو مارسناها لم يمارسها خصومنا. قلت له ولكن الأنبياء مارسوا اللاعنف من طرف واحد فهذا يكسر حلقة العنف. والعنف لا يولد إلا مزيدا من العنف. ومن خرج منه مهزوما أو ظافرا خرج مريضا. وحسب «شبنغلر»، المؤرخ والفيلسوف الألماني، فإن روما لم تتعاف قط بعد هزيمة قرطاجنة في زاما، فانقلبت من جمهورية إلى إمبراطورية استعمارية.

وفي التاريخ ظهر مذهبان، من يقتل ومن لا يؤمن بالقتل ولو هدد بالقتل. بدأ هذا المفرق منذ فجر البشرية في صراع ولدي آدم. ومشى في هذا الدرب الأنبياء والآمرون بالقسط من الناس. وكان سقراط واحدا منهم، فلم يقتل ولم يهرب من الموت.

كان سقراط فلتة عقلية، وبالتعبير الطبي «طفرة». والطفرة هي قفزة نوعية في الخلق. مع هذا فقد حكمت أثينا الديمقراطية بإعدام سقراط عام 399 ق. م. والسؤال: ما هو الجرم الكبير الذي حكم على العقل الكبير أن ينطفئ في أثينا؟

كانت ثروة البلاد في هبوط، فراح كثيرون يبحثون عن كبش فداء يوجهون إليه اللوم، وكان الشعور سائداً بأن الفضائل اهتزت، وكان المسؤولون عن ذلك في نظرهم فئة من المعلمين ذوي الأفكار الجديدة يتقدمهم من يقال له «سقراط». ولم يكن لسقراط من عمل سوى التجول في شوارع أثينا مغريا الناس بالجدل والمناقشة، دافعا إياهم عن طريق السؤال والجواب، إلى البحث عن المعرفة الحقيقية والفضيلة، ولكي ينهض بتلك الرسالة، كان لا بد من التشكيك في كثير من الأفكار السائدة، وهكذا أثار سخط عدد من الناس عليه، فاتهموه بالمروق الديني وإفساد الشباب.

وقدم الفيلسوف إلى المحاكمة، وكانت محكمة غريبة تتكون من 565 قاضيا، كان اختيارهم من العوام بالقرعة العمياء، أي بحبات الفول كما كانت عادة الأثينيين في اختيار موظفيهم. وهكذا، فقد كانوا خليطاً من الناس بين بائع متجول ومتسكع عربيد وقصاب جاهل وصياد سمك ومراب فاسد.

وعندما سأل كبير القضاة سقراط عن أي العقوبات يظن أنه يستحقها؟ أجاب مبتسما: «إن أليق حكم تصدرونه عليَّ بأن أطعم وأكسى على نفقة الدولة بقية عمري، اعترافا منكم بما أسديت لأثينا وأهلها من الخير وما بصرتهم به من الحق والعدل».

وصدر الحكم على سقراط بالإعدام. وأودع السجن حتى يحين وقت التنفيذ.

وفي ذلك اليوم، حمل إليه الحارس كأس السم فتجرعه سقراط بكل شجاعة المؤمن بمبدئه، فلم يخف الموت لأنه كان على يقين من أن الخلود في انتظاره.

وأنا أقول للعراقيين والفلسطينيين: كفوا عن الدماء ولو من طرف واحد، واصبروا على ذلك، فلقد سبقت الكلمة في الزبور من بعد الذكر، أن طوبى للودعاء فهم الذين يرثون الأرض. واليوم لا يذكر أحد سقراط أو غاندي إلا وخشع قلبه لذكرهما.

[email protected]