المرأة التونسية والسلطة السياسية.. ورقة رابحة ومصدر للشرعية

TT

تقوم علاقة المرأة بالسلطة السياسية في تونس على تاريخ نوعي خاص، رسم مسارا استراتيجيا يصعب جدا التخلي عنه، أو التراجع عن أي من مكاسبه، إنها علاقة يجتمع فيها الجوهري بالشكلي، والاجتماعي والإنساني بالسياسي وبالتنموي.

منذ استقلال تونس عام 1956 والمرأة هي عصب الفعل السياسي، لذلك فإن مقاربة المشروع البورقيبي، الذي امتد على أكثر من ثلاثين سنة، تؤكد أن المرأة جوهر ذلك المشروع وقوته وإحدى أهم المصادر الشرعية في الحكم. وهي أيضا، الحجة غير المباشرة التي ساعدت في بلورة معارضة دينية، على إثر فشل تجربة التعاضد في تونس في نهاية الستينات، وبالتالي ظهور حركة التيار الإسلامي في بداية السبعينات.

إن ما قادنا إلى النظر في موقع المرأة من الفعل السياسي في تونس ككل، هو تلك النقطة السادسة عشر الواردة في البرنامج الرئاسي للرئيس بن علي من 2004 حتى 2009، وذلك في إطار الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي ستجرى يوم 24 من الشهر الحالي.

النقطة رقم 16 التي مثلت جوهر النقاش النسوي هذه الأيام، أقرّت للمرأة العمل بنصف الوقت بالنسبة إلى الأم عند رغبتها والحصول على نسبة 66% من مرتبها الشهري.

وإذا كانت هذه المسألة أقل من عادية بالنسبة إلى النساء العربيات، بحكم تمتعهن بنظام الحصة الواحدة، فإن الأمر في تونس مختلف بشكل جذري، بل إن الحديث عن نظام الحصة الواحدة كان يعتبر من المواضيع المسكوت عنها، ولا يصرح بها إلا في الكواليس الاجتماعية. لذلك، فقد كان لا بد ـ كالعادة طبعا ـ من أن تكون المبادرة من أعلى هرم في السلطة، وتلك هي الطريقة التونسية في سن القوانين والقيام بالإجراءات، أي أن الإرادة السياسية هي التي تمهد الحياة للإرادة الاجتماعية وليس العكس. وهي بالمناسبة طريقة لها تاريخها وميكانزمها الخاص، وتعود إلى تاريخ تونس ما قبل المعاصر.

من المؤكد أن سياق إقرار العمل بنصف الوقت للأم عند الرغبة الذي ورد في إطار انتخابي، يجعلنا نميل بقوة إلى فرضية أن المرأة التونسية تمثل مصدرا مهما من مصادر شرعية الحكم في تونس، ودليلنا في ذلك أنها مصدر قديم ورثه النظام الحالي من النظام البورقيبي السابق، ويعتمده كآلية ثابتة من آليات الحكم والتأثير الاجتماعي، وكسبيل من سبل إشباع توقعات التونسيات، لا سيما أن عدد الإناث في تونس، حسب التعداد السكاني السابق، تعادل النصف، إضافة إلى أن المرأة قطعت في مجال التعليم مثلا، خطوات نوعية، أبرزها أن 55% من نسبة الطلبة في تونس من الفتيات.

وكي نضع علاقة المرأة العضوية بالفعل السياسي في إطارها التاريخي المرتبط بدوره بالوضع الحالي، من الضروري استعادة المنجز البورقيبي في ملف المرأة. ومن خلال ذلك المنجز يمكننا التعرف أكثر على طبيعة تلك العلاقة العضوية، وتفكيك بعض من تفاصيلها، وبالتالي التوصل إلى طرح الأسئلة الضرورية.

إن قارئ خطابات بورقيبة يرى أنه شديد التعلق بوالدته، وكيف أنه يتذكرها بحرقة لا تمنعه من البكاء أثناء تقديم خطابه. وقد كان يردد بأن كل ما فعله لفائدة المرأة في تونس هو من أجل ذكرى والدته العزيزة جدا عليه.

ولعل الجيل العربي الصاعد أو الجيل المنتمي إلى الثلاثينات من عمره، يجهل المنجز البورقيبي، وذلك على عكس الأجيال المتقدمة قليلا وكثيرا في السن.

وبشكل مغرق في الاختزال، فإن تونس بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان استقلالها التام، وفي أوج فصل الصيف، أعلنت عن إصدارها قانونا ثوريا هو قانون 13 أغسطس 1956 ، لمجلة الأحوال الشخصية، التي منعت تعدد الزوجات، وسنت غرامة مالية وعقوبة السجن لمدة سنة لكل من يخالف القانون. كما أقرت المجلة حق المرأة في الطلاق، وحددت السن الأدنى للزواج.

وفي ما يخص البعد الإجتماعي للمشروع البورقيبي، والمتمثل في تحديد النسل، فقد كانت المرأة السند الحقيقي في عملية الترشيد السكاني. زد على ذلك أن بورقيبة طرح قضية المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة. ولقد أخبرني السيد محمد المزالي الوزير الأول السابق، في حوار معمق أجريته معه في إطار رسالة الماجستير حول المسألة الدينية في الخطاب السياسي البورقيبي، بأن بورقيبة قال له بالحرف الواحد: «سأموت وستبقى مسألة المساواة في الإرث في نفسي».

ونظرا لحساسية قضية المساواة في الإرث، لا سيما أن بورقيبة لم يجد ما يسعفه كما كان شأن قضيّة تعدد الزوجات، فإن مجرد طرح المسألة قد أثار ضده حملات قوية، وقد اتهمه بعض رجال الدين بالكفر والإلحاد، ولم يجد من مشايخ الزيتونة من يشجعه فاختار الصمت.

ونظرا لمثل هذا الرصيد القانوني والاجتماعي والسياسي الثوري والخطير من حيث الأهميّة، فإن المرأة أصبحت خيارا استراتيجيا في الفعل السياسي التونسي وثابتا لا تحول عنه.

وإذا كانت الفترة الأولى من إعلان التغيير السياسي يوم 7 نوفمبر 1987، وتولي الرئيس زين العابدين بن علي الحكم، قد حركت المخيال الاجتماعي، فراجت بعض الإشاعات في الأوساط الشعبية مفادها إبطال مفعول قانون منع تعدد الزوجات، فإن الرئيس بن علي تدخل بخطاب أعلن فيه موقفه من خلال إبراز أهميّة الحفاظ على تلك المجلة كمكسب، ثم تتالت الإجراءات التي تكرس عزم النظام الحالي مواصلة احتضان المرأة، فأرسى نظام الملكية والشراكة بين الزوجين، وحق الولاية، ومنح المرأة جنسيتها لطفلها في حالة الزواج من جنسية مختلفة.

وبالنظر إلى مختلف هذه المعطيات، نجد أن مصلحة مزدوجة ومختلطة ومتشابكة تجمع بين المرأة والسلطة السياسية في تونس سواء في فترة الحكم البورقيبي أو مع النظام الحالي، كل طرف يغذي الآخر ويحمي الآخر، مما ينم عن وجود جدلية متبادلة: فالسلطة السياسية ضمان المرأة كي تحافظ على مكاسبها القانونية، والمرأة هي أكثر من يوفر للسلطة التعبئة اللازمة والمساندة، إلى درجة أن مواجهة المعارضة الدينية قد أذكت المصلحة المشتركة بين المرأة والسلطة السياسية، باعتبار أنهما المستهدفان والمستفيدان من فشل المعارضة الدينية.

إن احتفاء السياسي بالمرأة في تونس علامة ايجابية، بل أنه احتفاء لطالما جعل المرأة التونسية خارجة عن السرب وحالة استثنائية في العالم العربي، حتى أن عدة بلدان عربية تقارب اليوم التجربة التونسية في ملف المرأة وتحاول الاستفادة منها.

وما يلفت الانتباه في علاقة المرأة بالسياسة والسياسة بالمرأة في تونس، هو إلى أي مدى ساهم المنجز القانوني في إسعاد المرأة التونسية، وإلى أي حد ساهم ذلك الرصيد في إفراز حضور نوعي للتونسيات في كافة مجالات الفعل والإنتاج. أظن أن المرأة كمصدر من مصادر الشرعية السياسية وكورقة سياسية رابحة، قد بلغت من النضج ومن الخبرة مستوى يجعلها تقارب وضعها وتحاسب نفسها وتجيب بكل وضوح وشفافية عن سؤال: هل المرأة فاعلة اجتماعيا وسياسيا، وبماذا يفسر الباحثون ارتفاع نسبة الطلاق وبروز ظاهرة العنف ضد المرأة، إلى درجة أنه لا تكاد تمر عشر سنوات من دون أن يظهر «مريض نفسي» يستهدف النساء ويرتكب سلسلة من المآسي في حق الفتيات؟

ولعل مختلف هذه المظاهر التي لا شك أنها عادية وليست خاصة بالمجتمع التونسي فقط، تحرّك شيئا من جدية النظر في البون القائم بين الرفاهية القانونية وتواضع مردود تلك الرفاهية على الواقع العاطفي والاجتماعي والنفسي للمرأة.

[email protected]