استقالة الحريري ..أضاعوه وأي فتى أضاعوا

TT

في الوقت الذي تستعد مجموعة من النخبة الاميركية والاوروبية ومعهم بريطاني من اصل عربي لعقد خلوة بعد ايام في احد القصور القديمة في البندقية يتوجون فيها لقاءاتهم التشاورية الدائرة منذ خمسة اشهر بالاعلان عن ولادة «لوبي» من نوع غير مطروق يستهدف ترميم العلاقات التي تزداد حذراً بين العرب والمسلمين من جهة والغرب المسيحي من اميركا الى اوروبا من جهة اخرى، وهذا ما افادنا به احد افراد هذه المجموعة... في هذا الوقت ينتهي عدم القراءة المتأنية من جانب الثنائي اللبناني ـ السوري للتطورات التي تحدث الى خطوة صاعقة تمثلت بتعطيل كل المحاولات الجدية والمخلصة من جانب رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري لترميم العلاقات التي اضطربت كما لم تضطرب من قبل بين لبنان وسورية من جهة واميركا وفرنسا من جهة اخرى، والتي كان قرار مجلس الامن 1559 هو الملمح غير المطمئن للاضطراب وفي الوقت نفسه الخطوة ما قبل فرض عقوبات اقتصادية ومالية في الحد الادنى، وتدخلاً عسكرياً في الحد الاقصى. وجاء التعطيل الذي نشير اليه من خلال عدم تمكين الحريري من تشكيل حكومة كل اللبنانيين وهذا ما سعى اليه وسجل في سبيل ذلك تنازلات ربما يقرر ذات يوم الافصاح عنها.

بداية نشير الى ان فكرة «اللوبي» الذي سيأخذ على عاتقه ترميم العلاقات العربية ـ الاسلامية ـ الاميركية ـ الاوروبية نشأت نتيجة تداعيات الحرب على العراق، وفي فترة التحضير لهذه الحرب لم يتنبه كثيرون الى شخصيات اميركية وبريطانية لها تأثيرها او حضورها في اتخاذ القرار قرروا ترك مناصبهم المرموقة حتى بالنسبة الى الادارات الأمنية حيث لا يتم الكشف عن اسماء مترئسيها والمسؤولين عن المفاصل والاقسام الاساسية فيها. وكانت حجة هؤلاء ان الحرب ليست الحل وأنها ستتسبب في نشوء مشاعر بالغة الحدة من جانب العرب والمسلمين تجاه الغرب المسيحي، بل حتى ان الامور قد تتطور مع الوقت وتتسبب في حروب دينية من القطب الى القطب وبحيث اننا سنسمع عن مسلمين او عرب قُتلوا على ايدي مسيحيين اميركان او اوروبيين وبالعكس. وهذا وزر يجب عدم تحميله للأجيال المقبلة التي سيتحول افرادها إما الى ضحايا وإما الى قتلة. ومثل هذه الرؤية لم ترق للفريق الذي كان اتخذ قرار الحرب. ونتيجة ذلك حدث فراق وارتأى كثيرون من هؤلاء المعترضين على مبدأ الحرب كحل ان يتقاعدوا متحملين مع ان بين معظمهم وسن التقاعد اكثر من عشر سنين. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر من غادر المنصب انما كوفئ على ثاقب رؤيته وذلك بمنحه لقب «سير». اما الذين عرف الناس بمواقفهم ومن بينهم الوزير العمالي المرموق روبن كوك الذي آثر الابتعاد عن المنصب الرسمي، وهو الذي كان من بين المرشحين لتولي زعامة الحزب وترؤس الحكومة بعد طوني بلير، فإنهم ارتضوا العزلة وراحة الضمير على البقاء في نظر الناس جناة على الأجيال. ولم يقتصر الأمر على بريطانيا وإنما حدث شيء مماثل في اميركا ووصلت الحال بوزير الخزانة بول اونيل الى الاستقالة.

هذه الاستقالات سواء التي امكن الكشف عنها وتلك التي لا يجوز الكشف عنها، عملاً بقاعدة السرية المطلقة اثناء الوظيفة، احدثت نوعاً من الصحوة. ثم حدثت تطورات ولقاءات ومشاورات ومناقشات انتهت الى «خلوة البندقية» التي سنتطرق اليها لاحقا.

اما خلوة بيروت (مساء الاربعاء 20/10/2004) التي دامت خمس دقائق بين الرئيس الاول اميل لحود والرئيس الثالث رفيق الحريري وانتهت ببيان استقالة اشبه ببيان الوداع من جانب الحريري للمنصب، فإن هذا ما يستوقفنا اليوم. ومع ان هذا الانصراف للرجل يبدو طبيعياً، في ضوء ما حدث له منذ اللحظة التي تقرر فيها التمديد ثلاث سنوات لرئيس الجمهورية اميل لحود، إلاَّ أن حدوثه في هذه الظروف بالذات اغفل مخاطر التصدع الذي سيشهده لبنان والعلاقة اللبنانية ـ السورية مع العالم.

وهذا ليس كل شيء. فاحتمالات عمل عسكري اسرائيلي ضد «حزب الله» واردة في اي لحظة. واحتمالات الفتنة السياسية ممكنة. واحتمالات افتراس الدولار لليرة اللبنانية ليست مستبعَدة. واضطراب فرص الاستثمار وطموحات المستثمرين من جانب الخليجيين عرضة لصدمة بالغة الخطورة.

ويتساءل اللبناني الذي استقبل الحدث الذي كان يتمنى لو لم يحدث : لماذا يا أهل الحكم في لبنان وفي سورية تفعلون بوطنكم وبخصوصية العلاقة هذا الذي تفعلونه. ولماذا لم تفتدوا بشيء من المرونة ونكران الذات والنأي عن الكيدية والثأر وطناً هو في لائحة الاوطان المستهدَفة بقرارات من مجلس الأمن نوع القرار 1559 او بقرار أشد ايذاءً للناس؟

وتأمَّلوا يا قوم في هؤلاء الذين من اجل صحوة ضمير تركوا المنصب والجاه وابتعدوا، ثم ها هم سيلتقون على ضفاف مياه البندقية للبحث في الترميم بينما انتم هنا في لبنان وسورية تمعنون تصديعاً بعدما اضعتم رجل دولة لا ثاني لقدراته وعلاقاته... تماماً مثل اولئك الذين أوجز الشاعر العربي حالهم بقوله : أضاعوه... وأي فتى اضاعوا.