هل تنجح القاهرة في لملمة شتات السودان؟

TT

ما أن تبدو في الأفق بشائر أمل في حل لمعضلات السودان المركبة، حتى تتلاشى تحت وطأة تعقيدات أكبر، إلى درجة بات اليأس يكاد يقعد بالخيرين من أبنائه عن التحرك بعزيمة بحثاً عن الحلول. بل إن الأنظار حائرة وهي تتابع في قلق وخوف كيف تدولت كل القضايا إلى درجة أصبحت معها فرص المفاضلة تتراوح بين من يقبلون بالتدويل الإقليمي، ومن لا يقبلون إلاَّ بالتدخل الدولي العسكري والوصاية الأممية على مناطقهم!

ولعل ما يجري في كينيا من مفاوضات سلام بين الحكومة والحركة هو مزيج من التدويل الإقليمي (دول الإيقاد) والدولي (أصدقاء وشركاء الإيقاد)، والمفاوضات التي ستستأنف في العاصمة النيجيرية أبوجا حول أزمة دارفور يرعاها رئيس الاتحاد الأفريقي الرئيس النيجيري أوباسانجو هي الأخرى خليط بين ما هو أفريقي، وما هو دولي، لأن مجلس الأمن تحرك في وقت كانت فيه القمة الأفريقية منعقدة في أديس أبابا وتناقش الأزمة، وكل طرف أصدر قرارات من دون تنسيق مع الآخر، لكن مجلس الأمن تلطف في جزئية من قراراته فأثنى على الدور الأفريقي وشجع الاتحاد للمضي قدما في خطوات حلحلة الأزمة، ومن باب الصدف لا التدبير تشهد القاهرة أيضا اليوم استئناف المفاوضات بين التجمع الوطني الديمقراطي المعارض والحكومة برعاية مصرية وصولاً للوفاق الوطني المفقود. ومع أن الرعاية المصرية وحدها هي الخالية من المزج مع أطراف أخرى، فإن القمة الخماسية التي عقدت في ليبيا يوم الأحد الماضي كانت في إطار أفريقي صرف من حيث الجغرافيا، وعربية افريقية من حيث التنوع، إذ شاركت فيها مصر ونيجيريا وتشاد والسودان وليبيا، وكلها دول جوار للسودان باستثناء نيجيريا بصفتها راعية لمفاوضات أبوجا ورئيسة لدورة الاتحاد الأفريقي. وهي قمة نريد أن نستعرض ما لها وما عليها في هذا المقال.

ولكن قبل هذا الاستعراض، ما الذي يمكن استخلاصه عن السودان ومعضلاته التي هي بهذا الحجم، والموزعة بهذه الكيفية التي يجري التداول فيها في أربع عواصم، هي نيروبي وأبوجا والقاهرة، وأخيرا طرابلس بعد القمة الخماسية التي أوكلت للعقيد القذافي بذل المساعي لمصالحة أهل دارفور في إطار قبائلهم المتعددة، وفوق ذلك مجلس الأمن الذي أصبح طرفا أصيلا ومواصلا كل شهر مراجعة تقارير الأمم المتحدة للوقوف على ما نفذ من قراراته وما لم ينفذ ورافعا سيف التهديد والوعيد!

وهناك أيضا القوات الأفريقية في دارفور التي بدأت بمراقبين وتوسعت عدداً ومسؤوليات، ولا ينبغي أن ننسى القوات الأوروبية التي سبقتها قبل عامين أو أكثر لحفظ السلام في جبال النوبة، حيث بدأ وقف إطلاق النار هناك قبل الجنوب. وعلى ذكر الجنوب من المفترض أن يستعد السودان لاستقبال الآلاف من جنود حفظ السلام تمشيا مع مقتضيات الترتيبات الأمنية التي هي واحدة من بروتكولات السلام الذي تناقش ملاحقه الآن في كينيا.

ان نظرة شاملة فاحصة لكل ما تقدم ذكره، لا بد أن تحبط وتخيف من الوضع الذي آل اليه السودان، والمصير الذي ينتظره، بعد أن فقد كل هذا القدر من بسط السيادة على الأرض والقدرة على حلحلة المشاكل سواء أكانت عويصة أو بسيطة إلى درجة أصبحت معها كل قضاياه محور تداول في عواصم العالم بين مشفق مدرك بأن الحلول الصحيحة هي بأيدي السودانيين أنفسهم ومحتار فيما أصابهم، وطامع منهم يريد أن يفترس هذا القطر العظيم، ويخضعه لتركيبة على غير ما هي عليه حاله الآن يشكلها وفق أهوائه، إن في دويلات أو دولة واحدة، وها هي أحدث دراسة تتسرب من الولايات المتحدة تشير إلى اليأس من إمكانية استمرار السودان بتركيبته الحالية وان البديل هو خمس فدراليات تتحد فيما بينها!

لا ريب أن أكثر ما يثير الأسى في النفوس ويوسع من عمق الإحساس بالإحباط هو عجز الحكومة والمعارضين على السواء عن الوصول إلى اتفاق في أية عاصمة من العواصم التي يجرى فيها التفاوض إن بالنسبة لسلام الجنوب، أو أزمة دارفور، أو الوفاق الوطني، مما يعني تبلد الحس الوطني لدى هذه القيادات وعدم إدراك المخاطر المحدقة بالسودان بعد كل ما أصابه إلى أن وصل إلى حافة الهاوية!

وللأسف أن كل ما يصدر عن جل هذه القيادات هو رفع لافتة: لا للتدخل الدولي. لكأن الصراخ بالكلمات وحده سيحول دون التدخل الأجنبي، بينما التدخل الدولي يتزايد كل يوم في الشأن السوداني، وقيادات تمرد دارفور تطالب بالاستزادة منه. وحتى القمة الخماسية التي عقدت في ليبيا أخيرا رفعت شعار عدم التدخل الدولي وأمنت على واقعه المعيش فعلاً في تناقض واضح عندما طالبت الحكومة السودانية بالمضي قدما في تنفيذ قرارات مجلس الأمن!

ومع وافر الاحترام للقمة الخماسية وخاصة في رفضها للتدخل الدولي، فإن الطريق الوحيد لمنع التدخل الدولي تكمن في تسوية الأزمات والقضايا الأساسية لحكم السودان، وهي قضايا كلها بين أيديهم وتحت رعاية دولهم، وحالما سويت هذه القضايا انقضت مبررات التدخل الدولي، لكن هذا التدخل سيزداد طالما هذه القضايا عالقة ويزداد بعضها تفاقما ولن تجدي المطالبة بوقفه نفعاً.

ولقد حاولت القمة كذلك إشعار العالم بأن قضية دارفور تهم هذه الدول، إن بسبب الجوار وما يترتب على ذلك من انعكاسات سالبة من الأزمة، وإن بهدف أظهار التأكيد على أن القارة هي الأولى والأقدر على معالجة أزماتها، وهي رسالة مهمة ينبغي أن يأخذها المجتمع الدولي في الحسبان، طالما تابع القادة باهتمام دورهم المقدر في معالجة الأزمة. كذلك هدفت القمة إلى تلطيف الأجواء قبيل استئناف مفاوضات أبوجا، ولكنها للأسف بسبب التباسات معينة لم تحقق هذا الهدف لأن العقيد القذافي دعا قيادات المقاتلين إلى ليبيا في توقيت تلازم مع عقد القمة، مما أوحى بأنهم سيشاركون في القمة، وأدى عدم مشاركتهم إلى خيبة أمل في نفوسهم وردود فعل سلبية نحو القمة واتهامات لا تصب في المناخ المطلوب.. ومع أن بعضهم اشتط في الهجوم إلى درجة الادعاء بأنها منحازة للعرب في محاولة لإحياء نبرة الصراع العنصري، إلا أنهم جميعا كالوا الثناء المستطاب للزعيم القذافي، وتحدثوا عن الصلة الحميمة التي تربطهم بليبيا جغرافياً وقبلياً وعبروا عن تفاؤلهم بأنه بوسع الزعيم أن يلعب دوراً في القضية علماً بأن القمة نفسها قد باركت تكليفه المهمة.

وبالرغم من أن أزمة دارفور هي الأخطر والأعجل، ولذلك التركيز على مفاوضات أبوجا التي من المفترض أن تستأنف اليوم، يجب أن تكتسب أهمية كبرى، فإن على الجميع أن يبذلوا جهودا مضاعفة حتى تخرج هذه الجولة بنتائج ايجابية تخفف التوترات وتساعد في وصول المعونات الإنسانية لمئات الألوف من الذين هم في أمس الحاجة إليها، وتمهد الطريق وصولاً إلى حلول لكل القضايا الأخرى، فعلى الجميع أن يوقعوا في المبتدأ على اتفاق إيصال المعونات الذي تم التوصل إليه في الجولة السابقة والتي انتهت في جو بالغ التوتر والخصومة بين الجانبين.

وبما أن مفاوضات أبوجا وثيقة الصلة بمفاوضات القاهرة، خاصة بالنسبة للقضايا الشمولية، وتشارك فيها قيادات من مقاتلي دارفور أيضا، ومن حركة قرنق كذلك، فإن التوصل إلى اتفاق بين التجمع الوطني والحكومة في القاهرة من شأنه أن يذيب الجليد في كل مواقع التفاوض ويكسب القاهرة موقعا متقدما على كل جهات التفاوض، بحسبانها الجهة التي نجحت في الوصول إلى ما يشبه الحل الأوسع والذي من شأنه أن يساعد في حلحلة الأمور المستعصية في الجبهتين الأخريين نيروبي وكينيا، ومهدت الطريق للمؤتمر الجامع الذي من خلاله يصاغ عقد حكم السودان الجديد. فهل تفعلها القاهرة؟ نأمل في ذلك.