بيان اتهام ضد هذا الحب الأميركي

TT

لأنها تحبهم، تريد الولايات المتحدة أن يقع العراقيون في غرامها وغرام قواتها للأسباب التالية:

ـ لأنها دعمت نظام صدام حسين، بكل دكتاتوريته، طيلة سنوات الحرب ضد إيران، وزودته بكل ما كان يحتاج اليه من معدات عسكرية، لكي يحقق نصرا كلف العراقيين والإيرانيين أكثر من مليون قتيل وأكثر من مائتي مليار دولار، كانت تكفي لتبليط طريق البلدين إلى القمر.

ـ لأنها شجعته، بطريقة أو أخرى، على غزو الكويت، قبل أن تمسح به وبقواته الأرض.

ـ لأنها استخدمت أسلحة مزودة باليورانيوم المنضب ما تزال آثارها المدمرة على البشر والبيئة قائمة حتى اليوم، ولأنها ألقت فوق رؤوسهم مئات الأطنان من المتفجرات تعادل في قوتها أكثر من عشرين قنبلة ذرية.

ـ لأنها وفرت الغطاء لقوات صدام لقمع التمرد في الجنوب الذي راح ضحيته عشرات آلاف من الجنود والمدنيين.

ـ لأنها سكتت دهرا على مجازر حلبجة، قبل أن تكتشف كم أنها مفيدة لتبرير الغزو.

ـ لأنها حاصرت نظام صدام وحاصرتهم معه لأكثر من عشر سنوات ذاقوا خلالها الأمرين، وحرموا فيها من أبسط مقومات الحياة، من الدواء والغذاء وحتى من أقلام الرصاص، بينما ظل النظام يتمتع بكامل صحته وأمنه وسطوته.

ـ لأنها اتهمت العراقيين بالتورط في جرائم 11 سبتمبر، من دون أن يكون لهم ضلع فيها.

ـ لأنها اتهمت نظامهم بإخفاء أسلحة دمار شامل، تكفي لإزالة الجنس البشري من الوجود، من دون أن تعثر عليها.

ـ لأنها أرسلت فرق تفتيش كانت تعمد إلى إهانة سيادة بلدهم أكثر مما تبحث عن أسلحة دمار شامل.

ـ لأنها كانت تعتقد، بإيمان ديني، على غرار حكومة أسقف التبريرات الزائفة توني بلير، أن نظام صدام كان قادرا على شن هجوم كيمياوي وبيولوجي في غضون 45 دقيقة.

ـ لأنها عندما اجتاحت بلادهم عمدت إلى ترك كل مؤسسات الدولة مشرعة لأعمال النهب والتخريب، باستثناء وزارة النفط. ثم قالت لهم إنها لم تأت لتنهب النفط.

ـ لأنها دمرت البنية التحتية لكي تتيح لشركاتها أن تعيد بنائها من نقطة الصفر على حساب العراقيين.

ـ لأنها حلت الجيش العراقي ودمرت جهاز التعليم وأطاحت بمؤسسات الخدمات المدنية لتلقي بملايين الموظفين إلى الشارع.

ـ لأنها لم تقدم لهم مشروعا سياسيا محددا، يحظى بالإجماع الوطني، كبديل لنظام صدام، واختارت أن تلقي بالبلد في لجة الاضطراب والفوضى.

ـ لأنها عندما وعدت العراقيين بالديمقراطية، قدمت لهم نموذجا أشبه بديمقراطية النصب، لتأتي على مقاس حزب الاحتلال والدبابة، فتضمن فوزه بالعنف والخوف والقسوة، كما كان صدام يضمن فوزه بالعنف والخوف والقسوة.

ـ لأنها تميل إلى دعم «سياسيين» واقعون في غرام إسرائيل.

ـ لأنها تدعم إسرائيل بصرف النظر عن الاحتلال، وبصرف النظر عن انتهاكاتها لقرارات مجلس الأمن الدولي، وبصرف النظر كل ما ترتكبه من جرائم ضد الفلسطينيين.

ـ لأنها تسمح لخبراء وضباط إسرائيليين بالانتشار في شمال العراق، أملا في إقامة مستوطنة صهيونية كبيرة هناك.

ـ لأنها أرادت إقامة دولة قانون تعمل على مقاس يناسب حلفاءها وموظفيها حتى عندما يرتكب بعضهم جرائم نهب وقتل وسطو مسلح على ممتلكات الآخرين.

ـ لأنها اعتبرت السياسيين الذين حملتهم على ظهور الدبابات ممثلين للمجتمع العراقي، حتى وإن كان الكثير منهم من «أزلام صدام» سابقا.

ـ لأنها اجتاحت العراق وهي لا تملك سوى معلومات سياحية عن ثقافته وطبيعة مجتمعه.

ـ لأنها اجتذبت عصابة بن لادن التي لم يكن لها وجود في العراق لتحمل إليه ثقافة العمليات الانتحارية واختطاف المدنيين وقطع رؤوس الرهائن.

ـ لأنها تدعم حكومة لم تتمكن من رفع القمامة من شوارع بغداد، دع عنك إعادة الماء والكهرباء، وتسمح لشرطتها بأن تعصب حتى عيون الأطفال.

ـ لأنها تهدد بلدهم بتنفيذ المشروع الإسرائيلي للتقسيم، ما لم يسمح لقواتها بالبقاء فيه بسلام.

ـ لأنها تحارب لتعزل «المثلث السني»، من دون أن تدرك أن هذا المثلث عصب اقتصادي وإداري ووطني لا سبيل لإزالته بجرة قلم.

ـ لأنها تستهين بالسنة كـ«أقلية» متجاهلة، بتعمد وقح، أن الديمقراطية هي على وجه التحديد والحصر: احترام حقوق الأقلية.

ـ لأنها تقصف المدنيين وتهدم المنازل فوق رؤوس أطفالهم بحثا عن شبح يدعى «أبو مصعب الزرقاوي»... بـ«موافقة» الحكومة «العراقية».

ـ لأنها حولت سجن أبو غريب إلى رمز لكيفية ممارسة الديمقراطية بالاغتصاب الجماعي.

ـ لأنها لم تحاسب مسؤولا سياسيا واحدا عن تلك الانتهاكات، لتقول للعراقيين أنكم أوطأ، عنصريا، من أن تستحقون استقالة أي احد.

ـ لأنها تدافع عن الديمقراطية عندما تكون أداة ابتزاز ضد الآخرين، وتنتهك قيمها بنفسها عندما يتعلق الأمر بمصالحها.

فعلت الولايات المتحدة كل هذا لأنها كانت تريد أن تحرر العراقيين من نظام صدام، وهي فعلت ذلك ليس من أجل النفط ولا الهيمنة ولا أية مصالح استراتيجية أخرى ولا لمجرد الانتقام منهم ومن نظامهم الذي تجرأ على قصف إسرائيل. بل لأنها تحبهم، هكذا لوجه الله. ولأنها مغرمة بسواد عيونهم.

وكم كنا محظوظين بهذا الحب. وكم نشتهيه لعرب ومسلمين آخرين، ليغرقوا بالنعيم الذي نغرق فيه. فبهذا فقط، تترسخ الديمقراطية ويتراجع الإرهاب وينتشر الحب والغرام في كل أرجاء المعمورة. ساعتها فقط، لن يشعر أحد بأن هناك من يهين ذكاءه، بالكلام غير الفارغ عن مكافحة الإرهاب والتطرف، طالما أن الحب هو ما يصنعه. فالمسألة ليست مسألة غزو أو مكافحة إرهاب أو نفط، بل مسألة حب لا أكثر. حب جارف، طاغ وعنيف، من أجل الأغبياء والسذج. حب يقتل ويغتصب ويدمر، من أجل أن يبني، فوق عظام الضحايا، صرح انتصار الاحتلال والدبابة والقمامة.

ولكن لا بد أن هناك أميركا أخرى. أميركا علم وثقافة وحرية، يخشاها الطغاة ويناهضها الإرهابيون. أميركا أكثر اهتماما بالتواصل الحضاري لدفعنا إلى الأمام، وأقل اهتماما بالدبابة، لدفعنا إلى الخلف، أو النظر إلينا على أننا «متخلفون« لا نفهم إلا لغة القوة. أميركا أقرب إلى نفسها وقيمها، لا نسخة أخرى من إسرائيل.

لا بد أن هناك أميركا أخرى. ولا ندري ماذا نفعل لكي تقع هذه في غرامنا، بدلا من الأخرى.

* كاتب وصحافي عراقي