لبنانان، أحدهما جميل

TT

عدت الى لبنان بعد انتهاء الحرب وأنا خائف. وعندما رأيت شوارع بيروت ازددت خوفاً. كانت تبدو، في بعض أحيائها، مثل برلين او درستن بعد الحرب العالمية الثانية. مع الفارق ان الأعداء هم الذين دمروا برلين وليس اهلها وضيوفها. وفي المساء كانت بيروت تعود مدينة مهجورة وبلا اضواء. ولم يكن فيها سوى القليل جداً من المطاعم والملتقيات. كل شيء كان يذَّكر بالحرب وبالجريمة. وخصوصاً لوردات الحرب الذين جيء بهم وزراء لكي يصنعوا «السلم» بعدما تسببوا في قتل نحو 200 الف انسان وفي تدمير الاقتصاد والهجرة الجماعية والتفاف الأمهات بلون الحداد.

ما ان هدأت المدافع حتى عاد اللبناني يبني ما هُدَّم خلال 15 عاماً. والآن، بعد 15 عاماً على السلم، بنى اللبناني عشرة اضعاف ما دمَّر، واقام مكان المباني العادية مباني خليقة بباريس او تورونتو او سياتل. ومكان الشركات التي هجّرت جاءت شركات اكثر اهمية. وبرغم عجز وزارة الكهرباء عن تأمين النور بسبب السرقات الموصوفة، فأن بيروت مضاءة بالانوار الخاصة. ومكان المخازن الصغيرة التي كانت قبل الحرب، قامت الآن مخازن كبرى أجمل وأكبر وأرقى مما في فرنسا.

هذا ما حققه ويحققه اللبناني غير الرسمي. اللبناني المبدع في وجه اللبناني «الرسمي» الفاسد والمشتبه في أخلاقه والذي يجر خلفه سجلاً طويلاً من الارتكابات. وسوف يظل الفارق هائلاً ومريعاً بين الفرد اللبناني وبين البيروقراطية الرثة والعفنة والمصابة بالخمول والتبلد والاتكالية والكسل والشره وقلة الضمير والنقص في الوطنية.

لقد اقام الفرد اللبناني عاصمة تسابق العاصمة البيروقراطية وتخلفها وصغائرها بألف عام على الاقل. وأرسل لبنان الى مشروع «ابوللو» الفضائي اربعة من كبار علماء المشروع، فيما لم تغيَّر مصلحة المياه مختبراتها بعد. وانقذ لبناني إحدى اكبر شركات صنع السيارات من السقوط، فيما تفرض الدولة اللبنانية على استيراد السيارات ضرائب تشبه ضرائب اوروبا الشرقية أيام الشيوعية. ويملك لبناني آخر صناعة الساعات في سويسرا فيما تعجز الدولة عن اقناع موظفيها بالتقيد يوماً واحداً بالدوام في بلد تزيد فيه ايام العطلة «الرسمية» على ايام العمل.

انه الفارق بين الابداع والعقم. بين التكايا والمؤسسات. بين العامل والفاسد. بين المجتهد والمستسهل. بين النجاح والفشل. بين صاحب الكرامة وصاحب الهوان. بين الذي لا يهون عليه تحدَّ والذي يهون عليه كل شيء. واي شيء.

كل يوم يرتفع في لبنان مبنى ويقوم أمل جديد ويلمع نجاح، فيما تطفئ البيروقراطية كل يوم مصباحاً او تبعث يأساً جديداً او تزداد جهلاً او تنفث عداء وحقداً. وكلما رفع اللبناني الفرد مستوى المنافسة احطت البيروقراطية بمقاييس الغيرة والحسد. فريقان يعيشان على بقعة واحدة في عالمين مختلفين: واحد من بقايا عصور الظلام وواحد من رواد المستقبل. واحد للمحسوبية والفساد والاستقطاع. وواحد يتسارع فيه أهل الاجتهاد والابداع والطموح والفكر والثقافة: جدار تنبت في اسفله الطحالب وجدار مزين بالورود ومُضَاءٌ حتى في عتم وزارة الكهرباء.

كان الراحل الكبير صائب سلام يرفع شعار «لبنان واحد لا لبنانان» تشديداً على الوحدة الوطنية. لا يا مولاي. لبنانان، احدهما عدّو للآخر.