«التنوير الأخلاقي».. «الشكل القانوني» للتنوير.. لا يكفي

TT

ليس يتجافى هذا الموضوع «التنوير الأخلاقي» عن موضوع الأسبوع الماضي «التنوير العقلاني» فما بين أيدينا: هو من صميم السابق ـ من حيث المنهج والمصدر ـ وان اختلف في النوع أو القضية. ثم ان كليهما: ترجمة لـ «نهضة التنوير القرآني» الشامل، وكليهما متوجه إلى الإنسان نفسه: عقلا وخلقا.

وقد تأيد هذا التناغم بمفهومين يظلنا زمانهما:

1 ـ مفهوم: ان القرآن ـ وهذا زمانه أو شهره ـ قد ربط بين «العقل»، و«الخلق» ربطا يجعل الأول قاعدة الثاني العقلانية، كما يجعل الثاني: ثمرة الأول الخلقية.

ويثوي هذا الربط في صورتين ـ على سبيل المثال:

أ ـ صورة: أنه ليس من العقل: وجود تناقض بين القول والفعل، بين أمر الناس بالبر والخير، وحرمان الذات المعطية من هذا الخير والبر في الوقت نفسه: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون». فمن شأن العاقل: أن يكون «واعيا بذاته» فلا يحرمها من خير أو ضياء يقدمه لغيرها، بناء على مقولة غير عقلانية «فلان شمعة تحترق ليضيء لغيره»!!

ب ـ صورة: أن ليس من العقل: رفع الصوت أكثر مما ينبغي ويلزم: «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون».. فهذا مفهوم يؤكد على «وظيفة» العقل في التحكم في درجة الصوت لئلا تتحول هذه الطاقة إلى صراخ مزعج لا حاجة إليه.. وبديه: أن الصوت المعتدل النبر، المهذب الجرس: خلق عظيم، يميز الإنسان العاقل عن كائنات غير عاقلة: «واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».

2 ـ المفهوم الثاني: مستنبط من حقيقة الصيام، في زمن الصيام أو شهره. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».. فالله غني عن عبادة الناس. ومن معاني هذه الحقيقة الإيمانية: أن العبادات، ومنها الصيام، انما هي لمنفعة الإنسان ذاته. فالصيام وفق هذا الحديث: ليس مجرد «شكل قانوني« يلزم بفطم النفس عن حاجات الطعام والشراب والجنس من الفجر إلى الغروب. وليس الصوم محض عادة تمارس في بيئة اعتادت الصيام: إنما الصوم ـ في حقيقته وثمرته ـ «قوة أخلاقية» تعصم الإنسان الصائم من التدني الأخلاقي الممثل له بالزور، والجهل، والسب، والشتم ونظائر ذلك.

وهذا كله يتألق بـ «نهضة التنوير الأخلاقي»، الساطع.

إن «الشكلية الدينية»: المفرغة من جوهر التدين الصادق الفواح بعطر الخلق الرفيع: انتقدها الإسلام ودانها وماز بينها وبين التدين الحق الذي يثمر خلقا عاليا، حيث حذر من الانخداع بـ «الشكل الديني»، وأنضج الوعي العصيّ على هذا الانخداع:

1 ـ ما هو «الرمز الديني» الأشد بروزا في المجتمع المسلم؟.. إنه «المسجد» الذي تكاثرت النصوص على إعلاء قيمته. ولكن هذا الرمز الديني حين جُعل مجرد «شكل ديني»، واتخذ ستارا لـ «السقوط الأخلاقي»: كالتآمر والكيد والتربص والكذب والغدر لم يتردد النبي في هدمه واحراقه، بعد أن نبأه الله بمقاصد الذين بنوه، وهي مقاصد معادية للإسلام، ولكنها تعمدت أن تكيد له تحت عنوانه!!: «والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن ان أردنا إلا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون».

«لا تقم فيه أبدا».. ومن حكمة ذلك: ألا ينخدع المسلم بمجرد «الشكل الديني» الذي يخفي وراءه: انحرافا أو سقوطا خلقيا.

2 ـ وكان للمنافقين «شكل ديني» قانوني«!!» في اللفظ والمظهر أو الهيئة العامة. فقد كان رأس النفاق: عبد الله بن أبي بن سلول وسيما جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان، اذا قال سمع الرسول مقالته، وقد وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة. ولكن على الرغم من هذه الهيئة المعجبة، والقول الحافز على الاستماع إليه: أنضج القرآن الوعي العصيّ على الانخداع بذلك كله: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله انهم ساء ما كانوا يعملون. ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون».

ومما يندرج في هذا السياق: سياق «الشكلية القانونية» للتدين: أعمال «الرياء» التي لها «صورة» الدين وليس لها حقيقته.. ومن هذه الأعمال صورة: قوم يصلون ولكنهم متورطون في الرياء: «فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون ويمنعون الماعون».. ومنها: صورة قوم ينفقون ولكنهم متورطون في الرياء: «لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس».. ومن هنا كان «الإخلاص».. وهو إمام الأخلاق وغذاؤها وريها: شرط صحة لقبول الأعمال.

ولكي لا يتحول التدين إلى «شكل قانوني» أو ظاهري فحسب: أرسى الاسلام منهجا كاملا يربط بين التدين والأخلاق، ويجعل الأخلاق الرفيعة المتماسكة الثابتة المطردة ثمرة التدين وبرهانه، وإلا فلا. ومن خصائص هذا المنهج وبراهينه:

أ ـ ان الإيمان الصادق يدور مع الأخلاق: وجودا وعدما، فإذا تدنت الأخلاق، نقص الإيمان، بل انزلق إلى «العد التنازلي» المؤدي إلى النفاق التام أو الخالص.. وبرهان ذلك هو الحديث النبوي: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان. وإذا حدث كذب. وإذا عاهد غدر. وإذا خاصم فجر».. والحديث النبوي الآخر: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وان صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم: إذا حدث كذب. وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن خان».

2 ـ اشتراط صحة التدين: بصحة الخلق. فقد قال النبي: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه».. لماذا عطف النبي الخلق على الدين، ولم يكتف بالقول: إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه؟ لأن التدين قد يكون شكلا بلا مضمون. وطقسا بلا حقيقة. ولما كان الانخداع بهذا الشكل قد ينطوي على تغرير وتدليس: ضبط النبي: التدين بالخلق نصحا للأمة بتجلية المعايير الأدق والأوفى، وصيانة للوعي من خداع وتغرير وتدليس وغش.

إن التدين الحق: ليس ركاما من الأهواء والالتواءات والعقد النفسية + صلاة. وإنما التدين الحق: نفس سوية + إيمان صادق له ثمرة حلوة مرئية وملموسة ومتذوقة وهي: الخلق المتماسك الرفيع.

من أجل ذلك: اعتنى القرآن ـ منذ بدء التنزيل ـ بـ «التنوير الأخلاقي».. ومن ذلك: إدانة الظلم «إنه لا يفلح الظالمون».. والتسامح الرضي النديّ: «فاصفح الصفح الجميل».. وقيام التخاطب الإنساني على الحسنى: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن»..

والوفاء بالعهود والمواثيق: «الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق» ومن أجل التنوير الأخلاقي، كان أعظم وصف للنبي في القرآن هو الخلق العظيم»:.. «وإنك لعلى خلق عظيم». ومن أجل هذا التنوير الأخلاقي. كان المقصد الأسمى للإسلام، والغاية العظمى للبعثة هي: الخلق الرفيع. ولقد قال النبي: «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق».

ومن الارتكاس الخلقي، بل من الظلمة الخلقية التي جاء الإسلام لإخراج الناس منها: جعل الديانة «شكلا قانونياً» متمثلاً ـ فحسب ـ في أداء عبادات ظاهرة، وصور دينية، والفاظ دينية.. ومن الظلمة الخلقية ـ كذلك ـ: استغلال الدين في طلاء الأخلاق المنحرفة بطلاء ديني، بدلا من الاهتداء به في تحصيل «الاستقامة الخلقية»، فالدين ـ كما قال هنري برجسون ـ: «اعظم منبع للأخلاق الفاضلة، وهو قوة الجذب ذو الرحابة الإنسانية المستمدة من العون الإلهي».

إن أحزابا دينية وصلت إلى الحكم في أكثر من بلد: نشأ بين فصائلها خلاف قاد إلى «الفجور» في الخصومة.. وهذا الفجور في الخصومة من أخلاق المنافقين، لا المؤمنين. فقد أخبر النبي أن من صفات المنافق: أنه «إذا خاصم فجر» .. وهناك رموز دينية تورطت في مؤامرات غدر.. وهذا الغدر من صفات المنافقين، لا من أخلاق المؤمنين. فقد أخبر النبي أن من صفات المنافق: أنه «إذا عاهد غدر».. وهؤلاء الذين يمارسون العنف، إنما يمرقون من أخلاق الإسلام مروق السهم من الرمية. فمن أعظم أخلاق الإسلام: الرحمة والرفق. ولا ريب في أن العنف ضلال مبين عن هذين الخلقين، ونقض لهما.

وإذ دعونا من قبل إلى نهضة «تنوير عقلاني» فاننا ندعو اليوم الى نهضة «تنوير أخلاقي». فواقع المسلمين يحتاج النهضتين وهما ـ في المنهج ـ: نهضتان متناغمتان متكاملتان.