لماذا قرر بلير التوغل عميقا في «مثلث الموت» العراقي؟

TT

أوقع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير نفسه في مأزق لا يحسد عليه، بالموافقة على ارسال كتيبة اسكتلندية من الجيش البريطاني الى مناطق عمل الوحدات الأميركية في العراق، مما وحد صفوف المعارضين لسياسته حول اتهامه بالذهاب بعيدا في تورطه في السياسة الخارجية ـ والداخلية ـ الأمريكيتين، بطريقة تزيد عبء المال والدم على البريطانيين..

معارضة توني بلير، لم تقتصر على «المشتبه فيهم العاديين» من اليسار المعادي لأمريكا وجماعات السلام وحسب، بل ضمت مؤيدي حرب اطاحة ديكتاتورية البعث في العراق. حزب المحافظين المعارض ـ وهو تاريخيا أكثر اتساقا مع نفسه واعضائه في دعم التحالف التاريخي الأنجلو أمريكي ـ كان ايد حرب اطاحة صدام حسين ونظامه البعثي، خاصة وان رئيسة الوزراء الحديدية السابقة مارغريت ثاتشر، كانت اول زعماء العالم الحر الذين حشدوا التأييد الدولي لتحرير الكويت عام 1990، عندما احتل صدام جاره الكويتي المسالم، بل ووخزت بلسانها الرئيس جورج بوش الأب، حين تردد للحظة، وقالت له بصراحة ووضوح: «جورج: اللحظة غير مناسبة للتردد والتراخي».

لكن المحافظين تساءلوا ما اذا كانت دوافع ارسال الكتيبة الثالثة والأربعين، او الحرس الأسود Blackwatch Regiment، سياسية ام عسكرية، خاصة وان المحامي البارع، بلير، استخدم الألفاظ كدرع واق من سهام المعارضة في مرافعته البليغة أمام البرلمان، بتكرار كلمات مثل «العمليات العسكرية» و حاجة «القيادة الميدانية في جبهة القتال»، كي ينفي عن نفسه تهمة التضحية بحياة وسلامة «الأولاد على الجبهة» من أجل كسب نقاط سياسية لصالح الرئيس الامريكي جورج بوش، الذي تصفه الصحافة البريطانية، دون استثناء، بالسيد بوش، وبلير كلبه المدلل. شخصيا افضل تشبيه بلير بكلب اللبرادورLabrador ، افضل سلالات الكلاب التي تقوم بمهمة «الدليل»، الذي يقود الأعمي حتى لا يتعثر في الطريق.

اتفق الديموقراطيون الأحرار مع المحافظين في مهاجمة بلير، وطرح سؤالين، قال زعيم المعارضة مايكل هاوارد انهما يجولان بخاطر معظم البريطانيين: إذا كان للأمريكيين 138 الف جندي في العراق، فكيف، بحق السماء، يستنجدون بكتيبة بريطانية قوامها 600 جندي معظمهم من المهندسين والأطباء والمهمات المساعدة، والمقاتلون بينهم أقل من 250؟!

وقد انضم الى صفوف المعارضة، القوميون الأسكتلنديون ـ وكان زعيمهم اليك سامون، قد طالب باستجواب قانوني Impeachment لبلير، بتهمة تضليل البرلمان وتعريض مصالح الأمة للخطر من اجل صداقته مع الرئيس الأمريكي ـ لأن كتيبة الحرس الأسود هي اسكتنلدية مائة في المائة.

اعتمد نظام الفيالق Regiment في الجيش البريطاني، تاريخيا، على رفاقية الاتساق الأثنوجرافي. فهناك حرس ويلز، وحرس أميرة ويلز ـ الذين يتولون حراسة البصرة حاليا ـ والحرس الأيرلندي والحرس الأسكتلندي، والقواسون الأسكتلنديون، الى جانب فيالق المقاطعات، وحتى فيالق المحميات والحلفاء في الحربين العالميتين، مثل فرقة العمل المصرية التي اشتركت مع الحلفاء في اوروبا وشمال افريقيا في الحربين العالميتين، والفيلق الأسترالي والفيلق المسلم (الهندي) وحتى الفيلق العربي Arab Legion الذي تحول فيما بعد للجيش العربي (الأردني) بقيادة جلوب باشا.

ويرى المدافعون عن هذا النظام، وهم الأغلبية بين المعلقيين والأخصائيين والمؤرخين العسكريين، انه يرسي قواعد وتقاليد تجعل الجندي يحافظ على الشرف العسكري، والدفاع عن الزملاء والولاء، خاصة وان لكل فيلق من هذه الفيالق، رئيسا هو بكباشي اركان الحرب Colonel in Chief من العائلة المالكة او من كبار ابناء الأرستقراطية من اقارب الملكة.

والتهمة التي يوجهها اليسار وأصحاب نظرية المؤامرة دائما ـ وان كانت لا تخلو من جزيئيات الحقيقة ـ ان الانجليز يضعون فيالقهم ـ مثل تشيشر، وساليزبري وكمبرديشير ـ في الصفوف الخلفية، ويدفعون بالأستراليين والمصريين والهنود والأيرلنديين والأسكتلنديين الى الصفوف الأمامية، ومن البديهي ان ترتفع نسبة الضحايا بين فيالق الصفوف الأمامية وتقل نسبيا في الصفوف الخلفية حيث الانجليز.

وبالنسبة للحرس الأسود، ويطلق عليهم أحيانا الـ Highlanders ، نسبة الى اسكتلندا وهضابها المرتفعة، تبدو مشكلة بلير مزدوجة. فهي مع البرلمان والناخب والصحافة من جهة، ومع اسكتلندا كلها التي توحدت ضده، من جهة اخرى، رغم انه اول رئيس حكومة في العصر الحديث يعيد لأسكتلندا استقلالها والحكم الذاتي وبرلمانه الخاص.

الأسكتلنديون يكرهون الأنجليز تاريخيا ـ وويل للأنجليزي الذي يفتح فمه بلهجته الانجليزية الجنوبية إذا ضل الطريق في بيرث او ادنبره او جلاسجو، يوم مباراة كرة بين فريق انجليزي وآخر اسكتلندي، فلن يتعرف على وجهه في المرآة الا بعد ان ترفع الممرضة الضمادات عنه بعد اسبوع من نقله الى المستشفى!

واحتلت اخبار وتحليلات ارسال البلاك واتش الأسكتلنديين «لمثلث الموت» وسط العراق، مساحات شاسعة في الصحف القومية الأسكتلندية مثل السكوتسمان، والجلاسجوهيرالد، والصانداي بوست. وكما هو ومتوقع جاءت الافتتاحيات والتحليلات والتعليقات، وحتى رسائل القراء ـ ومقابلات مع عدد كبير من آباء وامهات الجنود الأسكتلنديين في البصرة ـ بما لا يشتهي بلير.

الأمر المقلق لبلير ووزير حربيته جيف هون، هو أن الأوامر كانت قد صدرت بالفعل للكتيبة بالتحرك قبل اسبوع، لكن الأنباء تسربت للصحافة، ثم البرلمان، وصار الحرج علنيا. طبعا تسريب اسر المقاتلين الأسكتلنديين المعلومات للصحافة الاسكتلندية امر متوقع، لكن تسريب جزء من المعلومات عن طريق كبار ضباط الجبش البريطاني، وقيام جنرالات متقاعدين حديثا، باسم زملائهم في قيادة الأركان بتسريب المعلومات للصحافة، امر يشكل خطرا على مصداقية بلير وحكومته.

ويعود السبب الى ان الجيش البريطاني يرفض ان يعمل جنوده تحت امراة ضباط امريكيين، لعدة اسباب. فالمبدأ العسكري Military Doctrine للجيشين مختلف. وقواعد الاشتباك Rules of Engagement مختلفة كلية. البريطانيون يتعاونون مع القوات والسكان المحليين، يصادقونهم ولا يضعون الخوذات المصفحة او النظارات الشمسية السوداء، الأمريكيون لا يتخالطون بالسكان المحليين، ويعاملونهم بشك وريبة. البريطانيون يقتصدون في استخدام السلاح، ولا يحملون سوى بندقية، وتعليمات الشاويش للجندي هي «تأكد من الهدف حتى لا تصيب بريئا، تأن وأحسن التصويب، فرصاصة واحدة تكفي بالغرض، ومن المستحسن الا تطلق النار اصلا». ويختلف هذا عن تعليمات الشاويش الأمريكي «افرغ خزانة مدفعك الرشاش، فمن الالف رصاصة قد تصيب واحدة الهدف، ومن الأفضل ان تظل حيا، ويستحسن ان تدع الطائرات تؤدي العمل». الطائرات طبعا تقصف من بعيد دون تورط.

ولأن البريطانيين ـ رغم تمتعهم بثقة العراقيين ـ سيحلون محل امريكيين في مناطق أغضب فيها العراقيون، يخشى الناس أن تتعرض حياتهم للخطر من قبل سكان غاضبين على من يرتدى الزي الكاكي.

أما سبب قبول بلير الطلب الأمريكي، فهو على الأرجح، استراتيجية بعيدة المدى، تستهدف الخروج من العراق مبكرا. وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد اعترف بأن عدد القوات لا يكفي، والجيش الأمريكي تطوعي وليس اجباريا. وإذا اصدر بوش امرا بالتجنيد الإجباري لفترة محدودة، فسيخسر الانتخابات. هنا يساعده بلير على كسب هذه الانتخابات بنشر قوت بريطانية ـ وهي تهمة المعارضة له ـ املا في نجاح بوش الذي يستطيع، في ولايته الثانية، اتخاذ اجراءات جريئة لزيادة عدد القوات في العراق، مما يخفف الضغط على البريطانين فيما بعد.

لكن المشكلة تكمن في ان تحقيق هذه الاستراتيجية بعيدة المدى، قد يستغرق وقتا اطول مما يتحمله صبر الناخب البريطاني. بلير وعد بعودة «ألاولاد» قبل اعياد الميلاد. لكن هذا بالضبط ما قاله الزعماء السياسيون عندما ذهب الجنود الى الجبهة في اروبا في بداية الحرب العالمية الأولى.