تركيا إلى النادي الأوروبي.. إن سلمت من «سيف ديموقليس»

TT

طيلة الاسابيع الماضية وحتى الآن، عرفت لاول مرة معنى المناقشة الديمقراطية في بلد متحضر ومتقدم. فالمسألة التركية التي اصبحت تطرح نفسها بالحاح على اوروبا لم يحسم أمرها الملوك والرؤساء من فوق كما يحصل عادة في البلدان المغلقة، وانما طرحت على الملأ لكي يدلي الجميع بدلوهم فيها، فالراديو، والتلفزيون، والبرامج الخاصة، والطبقة السياسية، والطبقة الثقافية، وحتى عامة الشعب اصبحوا يتحدثون عن تركيا وهل ينبغي ان تدخل الى اوروبا او لا تدخل، الخ..

واستعرت المناقشات واحتدمت بين مؤيدي دخولها ومعارضيه الى درجة انني وانا الاجنبي عن التاريخ الفرنسي اصبحت افهم القضية اكثر بكثير من ذي قبل. وهنا تكمن فوائد المناقشة الديمقراطية الحرة. انها تعني تقليب المسألة على كافة وجوهها لكي تتوضح معالمها وخفاياها وابعادها. فعن طريق الرأي والرأي المضاد وما بينهما اصبحت الصورة بارزة لكل من يرى ويسمع. واصبح الشعب الفرنسي قادرا في اللحظة المناسبة على البتّ في الامر وهو على هدى من أمره. وهذا الامر ينطبق على الشعب الالماني بالطبع وبقية الشعوب الاوروبية. اما عندنا فمن يجرؤ على ان يفتح فمه بخصوص المشاكل الحارقة التي تكاد تمزق المجتمع وتعرضه لحرب اهلية مدمرة؟ فنحن نعتقد اننا اذا ما سكتنا على المشكلة او طمسناها فإنها تموت في ارضها او تنحل من تلقاء ذاتها! ولكنها في الواقع تتفاقم وتتضخم حتى تصبح قنبلة موقوتة قد تنفجر في اي لحظة. لكي تحجم مشكلة ما لا تكبتها ولا تسترها ولكن دع جميع الناس يتحدثون عنها و«يفشون» خلقهم فيها كما يقال، او يعبرون عن مكبوتهم وما يعتمل في ذات الصدور. اقول هذا الكلام وانا اعرسف ان المقارنة بين دول اوروبا المتقدمة ودولنا امر خاطئ من أساسه. فنحن لا نزال في بداية التحرير الفكري او الاجتماعي او السياسي، اما هم فقد اصبحوا في نهاياته.

لكن لأعد الى المشكلة التركية ولأطرح هذا السؤال: من هو مع دخول تركيا الى الاتحاد الاوروبي ومن هو ضده، ولماذا؟ على المستوى الشعبي تقول آخر استطلاعات الرأي العام بأن نسبة 76% من ناخبي اليمين الفرنسي سوف تصوت ضد دخول تركيا. واما نسبة المعارضة داخل اوساط اليسار فهي ايضا كبيرة وتقارب السبعين في المائة او ربما اقل قليلا.. وهذا يعني ان الشعب الفرنسي في اغلبيته يرفض دخول تركيا على الاقل في الوقت الحاضر. اما في المانيا فالتفاوت اكبر بكثير بين قوى اليسار الديمقراطي الاشتراكي وقوى اليمين الديمقراطي المسيحي المعارض حاليا. فاليمين ضد الدخول بشكل قطعي في حين ان اليسار وعلى رأسه المستشار شرودر يؤيد الدخول. وعموما فإن الشعب الالماني في مجمله يرفض تركيا بنسبة 54% ويقبلها بنسبة 40%، وبالتالي فالمعارضة اقل مما هو عليه الحال في فرنسا. لكنها موجودة وقوية. نقول ذلك وبخاصة ان المانيا تضم اكبر جالية تركية في اوروبا.

اما على مستوى النخب السياسية والثقافية التي اصطرعت على شاشات التلفزيون طيلة الاسابيع الماضية وكادت تشتم بعضها البعض بخصوص تركيا، فالتناقضات تخترق اليمين واليسار في آن معا. وما عدا اليمين المتطرف العنصري والطائفي والرافض لقيم الحداثة من اساسها، فإنه لا يوجد تجانس لدى النخبة. فمثلا فاجأنا رئيس الوزراء اليميني المستنير السابق «ريمون بار» بأنه مع دخول تركيا لكيلا تحصل حرب حضارات بين اوروبا والعالم الاسلامي. وهو موقف شجاع ويشكر عليه اذا ما علمنا ان قاعدته الشعبية هي ضد دخول تركيا كما ذكرنا آنفا.. ولكن القائد السياسي الحقيقي هو ذلك الذي يتقدم على شعبه ويرى الى ابعد من أنفه ويدله على الطريق. وليس ذلك الذي يلتصق بالمواقف الشعبية او حتى الشعبوية باستمرار، وإلا لما استحق ان يدعى قائدا.

اما رئيس الوزراء الاشتراكي السابق ميشيل روكار فقد كان الاكثر تحمسا لدخول تركيا الى الاتحاد الاوروبي، بل ووصل به الامر الى حد لوم الشعب الفرنسي لانه متحفظ جدا على هذا الدخول. وهو يبني محاجته على الفكرة التالية: ان دخول تركيا وهي البلد المسلم في اغلبيته الساحقة الى اوروبا، سوف يخفف من حدة الحقد بين العالم الاسلامي والغرب ككل. فتركيا بلد اسلامي قوي وله تاريخ عريق، بل وكان قائدا للعالم الاسلامي طيلة اربعة قرون في عهد الامبراطورية العثمانية. وبالتالي فيمكن لتركيا ان تصبح جسرا بين اوروبا ومليار مسلم يقفون وراء تركيا بمن فيهم العرب والفرس والافغان والباكستانيون.. الخ.

وبما ان المعركة المقبلة، ولمدة خمسين سنة على الاقل، سوف تكون بين عالم الاسلام وعالم الغرب الاوروبي الاميركي فانه يستحسن بنا ان نساعد القوة المتطورة او الراغبة في التطور من اجل فرز وعزل القوى المتطرفة والرافضة للحداثة والحضارة.

ثم يردف ميشيل روكار قائلا بما معناه: لا ينبغي ان نضع جميع المسلمين في سلة واحدة كما يفعل التيار اليميني المتطرف في الغرب والحاقد على الاسلام تاريخيا. فنسبة المتطرفين الاصوليين لا تتجاوز العشرة في المائة من اصل مليار ومائتي مليون نسمة، فلماذا نعاقب المليار بجريرة المائتي مليون المتبقية؟ لماذا لا نتعامل مع القوى العقلانية والمستنيرة او المتجهة نحو الاستنارة في العالم الاسلامي ونساعدها للتغلب على القوى الظلامية والارهابية؟

ينتج عن ذلك ان رفض تركيا سوف يدفع بها الى القيام برد فعل علينا وادارة ظهرها لنا، بل وسقوطها في معسكر التطرف والتعصب.. فهل هذا ما نريده يا ترى؟

نقول ذلك وبخاصة ان تركيا بذلت في السنوات القليلة الماضية جهودا مضنية لكي تصلح اوضاعها الداخلية وتشريعاتها وبرامج تعليمها. وهكذا اقتربت اكثر فأكثر من المعايير والقيم الاوروبية، بل وسحب برلمانها أخيرا القانون الخاص بمعاقبة المرأة المتحررة او التي أخطأت مرة.. واعترفت الحكومة التركية لأول مرة بحقوق الاقلية الكردية الكبيرة التي يبلغ عدد سكانها 15 مليون نسمة واصبح لهم برنامج خاص يبث باللغة الكردية. وهذا حدث تاريخي بالنسبة للاكراد وخطوة اولى على الطريق وان لم تكن كافية.. وبالتالي فالاتراك يبذلون جهودهم ويقطعون نصف الطريق نحو اوروبا فلماذا لا تقطع هي النصف الآخر باتجاههم؟

اما الذين يعارضون دخول تركيا من قادة اليمين واليسار كنيكولا ساركوزي ولوران فابيوس واخرين فانهم لا يستخدمون المحاججة الدينية وانما الجغرافية والسياسية والحضارية، فهم يقولون: لكي نقبل تركيا او نرفضها ينبغي اولا ان نتفق على الامور: هل تركيا بلد اوروبي ام لا؟ من الناحية الجغرافية نلاحظ ان 5% فقط من مساحتها موجودة في اوروبا، وهي تمثل المناطق المتحضرة والمتطورة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

وهي الاقرب الى المعايير الاوروبية لانها تمثل النخبة الثقافية والسياسية للبلاد، هذا بالاضافة الى النخبة الاقتصادية وكبار رجال الاعمال، اما الـ 95% المتبقية من تركيا فهي شرقية اسيوية ولا علاقة لها باوروبا. وهي متخلفة من كل النواحي وفقيرة ومليئة بالاصوليين الكارهين لأتاتورك وعلمانيته التي لا يفهمونها ولا يعرفون ما هي اصلا.. ولولا ان الجيش التركي الذي هو من اقوى الجيوش حتى على مستوى اوروبا يحمي تراث اتاتورك بقوة السلاح لانهارت العلمانية منذ زمن طويل.

وبالتالي فهي علمانية مفروضة من فوق وليست نابتة من تحت كما حصل في فرنسا وعموم اوروبا.. وبالتالي فان الهوة لا تزال سحيقة بين المجتمع التركي والمجتمعات الاوروبية التي حلت مشكلة الاصولية المسيحية جذريا. واكبر دليل على ذلك هو الدستور الاوروبي الذي صدر أخيرا رفضوا ان يضعوا في ديباجته بأن المسيحية تمثل احدى القيم الاساسية للحضارة الاوروبية وتم التركيز فقط على القيم الديمقراطية والليبرالية التي نشأت على انقاض الاصولية المسيحية منذ عصر النهضة وحتى عصر التنوير وانتصار الفلسفة العقلانية والانسانية التي تشمل جميع البشر وتساوي بينهم بغض النظر عن اديانهم ومذاهبهم واعراقهم.

ولهذا السبب فان تهديد طيب رجب اردوغان للاوروبيين بانهم اذا لم يقبلوا بتركيا فان هذا يعني انهم طائفيون وان اوروبا هي عبارة عن «ناد مسيحي» مرفوض ومردود ولا يمكن ان يخضع له قادة اوروبا. فهم يقولون بأن اوروبا هي ناد علماني وليست ناديا مسيحيا، وهذا صحيح. ولكن المشكلة هي ان تركيا لا تستطيع ان تهضم كل الثورات العلمية والفلسفية والسياسية والحضارية التي استوعبتها الشعوب الاوروبية على مدار الاربعمائة سنة الماضية. هذا مستحيل وما ينطبق على تركيا ينطبق على جميع الشعوب العربية والاسلامية. وهنا تتجلى الهوة السحيقة التي لا تزال تفصل بيننا وبينهم بكل ابعادها، ولا احد يستطيع ردمها في المدى المنظور، ولكن يمكن تقليصها شيئا فشيئا كما اثبتت التجربة التركية في الآونة الاخيرة.

فهل سيعطوننا الوقت الكافي لكي نصبح ليبراليين، ديمقراطيين، حضاريين، متسامحين دينيا وقابلين للاختلاف حتى في المعتقد؟ هذا ما يجمعون عليه يمينا ويسارا ما عدا اليمين العنصري المتطرف الذي يعتبرنا متخلفين حتى ابد الدهر مهما فعلنا ومهما حاولنا.

ولهذا السبب فان لجنة بروكسل اعطت الضوء الاخضر لفتح المفاوضات مع تركيا مع ربطه بشرط واحد هو: مواصلة تركيا للاصلاحات حتى تصبح ديمقراطية وحديثة بالكامل. اما اذا ما اخلت بهذا الشرط او تراجعت فسوف تقطع معها المفاوضات فورا. وبالتالي فسيف ديموقليس مسلط على رأسها.