هوية الشيخ ياسين

TT

أنا عندي حنين.. بس هالمرة عارف لمين، فكلما أتى رمضان من كل عام تأخذني الدروب جميعها الى الشيخ ياسين.

إنه مؤذن قريتنا، ذاك النحيل الأشيب السمح المعتدل المحب للناس والحياة، والذي ظل يؤدي الوظيفة نفسها خلال عمره المديد، لكنه في رمضان بالذات كان يتألق ويعطي أفضل ما عنده محيلا الساعة التي تسبق الافطار الى إثارة محببة، لا أظن أن الأيام محتها من ذاكرة أي طفل منا. فقد كان يظهر قبل الافطار بقليل في قمة المئذنة ثم يختفي والاطفال يراقبونه من الأسطح ويصرخون به، وهم يتضورون جوعا، أن يكبر ليفطروا، فيبتسم ويختفي مع ساعته التاريخية التي تحدد وحدها للناس متى يفطرون ومتى يرمون اللقمة الأخيرة من أيديهم أثناء السحور، حين يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود في ساعة الشيخ ياسين الفضية.

ولو سألتني الآن ماذا تعني أنت وأمثالك حين تحكون عن الاسلام كهوية حضارية، لما وجدت أفضل من مجتمع سرمدا وذكريات الشيخ ياسين مثالا تبسيطيا أقدمه ليحكي الكثير عما لا يمكن التعبير عنه بالأقلام والنظريات الفكرية والفلسفية.

سرمدا قرية في شمال سورية بينها وبين نقطة حدود باب الهوى ثلاثة أميال، كنا نقطعها مشيا على الأقدام حين نرغب في رؤية الشقراوات عن بعد وهن يختمن أوراق الترانزيت، ولم يحدث أبدا قبل أن يهاجم الإرهاب سورية قبل غيرها مبكرا في الثمانينات، أن تساءل أهل تلك القرية عن طبيعة الاسلام وخلافات طوائفه المذهبية.

هناك نولد مسلمين ونذهب الى المسجد قبل الخامسة، وبعضنا يبالغ بتشجيع من الاهل فيبدأ بتأدية التراويح قبل أن يتم السابعة، وجميعنا نلتقي ونفترق عند الشيخ ياسين الذي عايش عدة أئمة وأفنى عدة مسحراتية وظل وحده ثابتا كمئذنة المسجد المنيرة وذلك العمود الروماني المهيب شرق القرية الذي يضربون به في سورية المثل، فيصفون الشخص الذي يقف جامدا لا يتحرك بأنه مثل عمود سرمدا. آثارنا هناك ليست رومانية فحسب، فحران التي عبر منها خليل الله ابراهيم من أور باتجاه الجنوب قريبة منا، وعبر الحدود مع تركيا نلمح حين تختفي الغيوم صيفا جبل آرارات الذي يقال إن قارب نوح بعد الطوفان رسا فوقه، والحضارات جميعها تناحرت في تلك البقعة الحدودية التي صار اسمها في زمن الاسلام ثغورا وكانت قبل الاسلام مسرحا لحضارات حثية وأرامية ورومانية وقبلها فينيقية وكنعانية.

على صعيد العقائد انطاكية عاصمة لواء الاسكندرون أيضا قربنا وفيها وقربها كما هو معروف ترسخ الدين المسيحي وعقد مؤتمر نيقية في القرن الثالث الميلادي على زمن الامبراطور قسطنطين الذي كرس المسيحية كما نعرفها اليوم بالتأكيد على أكثر من طبيعة للسيد المسيح عليه السلام.

مع الوقت ورغم غنى المنطقة بالحضارات والعقائد صارت الهوية الاسلامية هي الغالبة، وصارت الحضارات الأخرى موسيقى تصويرية نسمعها ونحس بها عن بعد ونعيش بين خرائبها وأطلالها ونغازلها ككل قديم يضيف اليه الزمن جمالا، لكنها أبدا لم تتعارض أو تتضارب أو تتناحر مع هويتنا الاسلامية التي انتمت قراءة وتمذهبا الى الشافعية وتعلمت قبل أن تعقد القراءات الفهم وتنمي الشكوك سماحة الاسلام واعتداله عبر مؤذن بسيط في قرية نائية لم يدخل أية كلية للعلوم الشرعية، لكن ايمانه الذي كان يشع في كل حركة من سلوكه جعله قدوة تحتذى.

[email protected]