مراوحة «السكارى»

TT

لطفي السيد رئيس أول جامعة نظامية بمعنى الكلمة في الوطن العربي، ألا وهي جامعة فؤاد الأول، التي أصبح اسمها فيما بعد جامعة القاهرة.

هذا اللطفي السيد، كان رجلاً تنويرياً، لا يخشى، مثلما يقولون، في الحق لومة لائم. فرغم قامته القصيرة، وحجمه الصغير، كان عملاقاً وكبيراً.. ومما قرأت له فيما رواه عندما كان مبعوثا سياسيا في سويسرا، ومنتسبا في نفس الوقت في جامعة جنيف، انه في صيف 1897م:

جاء محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين، وهذان الأخيران قد أقاما معنا قليلاً. أما الشيخ محمد عبده، فحين علم أني طالب بالجامعة أغشى دروس الفلسفة والأدب والفرنسية، أحب أن يكون تلميذا معي، وهو حينئذ قاض في الاستئناف ومدير للأزهر، فصار تلميذا بعمامته وقفطانه الذي كان يفتن النساء. وذات يوم كنا في درس من دروس أدب اللغة الفرنسية، يقوم على قصة لفيكتور هيجو، وطلب منا الأستاذ أن نبدي رأينا فيها وفي كاتبها بعد أن أمهلنا في ذلك أسبوعاً. وفي اليوم المحدد قال كل منا ما فتح الله به عليه، من بنين وبنات معا، فخرجنا ورأيت الشيخ يترقرق الدمع في عينيه وقال: «يا لطفي، عندكم معلمون، وليس عندنا معلمون».

هذا الشيخ الورع الثاقب البصيرة، هو الذي قال بما معناه عندما ذهب إلى باريس: هنا إسلام بدون مسلمين، وعندنا مسلمون بدون إسلام.

ما أشبه الليلة بالبارحة، وما زلنا من عصر محمد عبده إلى اليوم نراوح في مكاننا، ويا ليتها كانت مثل مراوحة الجنود، لكنها مثل مراوحة «السكارى».

أي أمة تلك التي ترتجى، وهي الأمة التي كان من الممكن أن تنهض من سباتها «الأعمق من العميق»، من أول ما دخلها نابليون وجنوده، وعلماؤه، ومؤرخوه وصناعه، ورساموه، وفلاسفته، وأطباؤه، وحتى طباخوه؟!.. أي أمة تلك التي تعلمت خلال ثلاثة أعوام، ما لم تتعلمه طوال عدة قرون؟! تلك الأمة التي نهضت، أو بمعنى اصح كادت تنهض، إلى درجة أن اليابان وهي اليابان، أرسلت مجموعة من مثقفيها لكي تستفيد من التجربة الحضارية التي بدأت تظهر ملامحها في مصر ـ وأنا هنا لا أتحدث عن مصر كأمة ـ لكن أتحدث عن العرب كلهم كأمة مستباحة بما يشبه الجهل ـ أو فلنسمه «الظلام».

كنت أتمنى، وما زلت أقول: يا ليت نابليون ومن معه مكثوا في مصر لا ثلاث سنوات، لكن ثلاثين سنة، أو أكثر، لكي نستزيد نوراً وتنويراً.

إننا معشر العرب، و«معانا كمان» المسلمين ـ خصوصا من كان من الأفغان أو الباكستان أو من هم على شاكلتهم ـ نحن جميعا «نهرف بما لا نعرف»، وإذا عرفنا لا نفقه، وإذا فقهنا «فغرنا أفواهنا» لكي تكون مغارات جيدة لتفريخ الذباب.

رحمك الله يا محمد يا عبده عندما قلت: عندكم معلمون، وليس عندنا معلمون. وأزيدك من الشعر قصيدة يا شيخ محمد: الحال ما زال كما هو عليه، ولم يفت عليك شيء، اللهم إلا أن أسامة بن لادن أصبح شيخاً ذا لحية معتبرة، وأبو مصعب الزرقاوي أصبح مفتياً، لعبته المفضلة «حزّ الرقاب»، وعلى هذا الأساس، فالدماء ما زالت تسيل بكل «عنفوان» من أيام ما قتلوا «ابن الخطاب» رضي الله عنه إلى الآن يا سيدي، أو مثلما تقول الاغنية: «يا سيد ساداتي».