تأملات في «تسطيح» رمضان

TT

تابعت بشغف استعدادات العرب لاستقبال شهر رمضان الكريم، الف مسلسل ومائة سهرة رمضانية، وخيام على النيل وشيشة مما تحبون الى آخر هذه السلوكيات التي بدأت تحول الحالة الروحية الرمضانية الى حالة من البهرجة الدنيوية، اقرب الى كرنفال الكريسماس منها الى رمضان، فهل سيؤول مستقبل رمضان الى ما آل اليه عيد الميلاد المسيحي؟! والذي تحول تدريجيا مع زحف ثقافة السوق والدعاية من طقس ديني الى حالة تجارية؟!

ربما هذا هو السؤال الرئيسي حول رمضان الآن، سؤال تتبعه سلسلة من الاسئلة المصاحبة التي تدفع الى التفكر في هذا الشهر الكريم، مثل سؤال الاقتتال في رمضان وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، كذلك هناك اسئلة تخص العمل والعبادة والإجازة، واسئلة تخص الوقت والزمن.

كلما جاء رمضان وجدت نفسي انتقل من عالم الساعة والدقيقة الذي هو أمر حداثي نحياه كل يوم، الى حالة من قياس الوقت حسب علامات الطبيعة، شروق الشمس وغروبها، لحظة الامساك عن الطعام والشراب ولحظة الافطار، وما بينهما مساحة طويلة من الوقت، هذه المساحة تقسم ايضا عن طريق الصلوات، الصبح، والظهر والعصر، والمغرب، والعشاء، خمس تقسيمات كبرى، تأخذك الى عالم آخر غير عالم الساعة والدقيقة والثانية الحداثيتين. الى عالم مقسم بشكل آخر، تتحول معه الساعة الداخلية الى ما يمكن تسميته بالتقسيم الروحاني للزمن، اربع قطعات من الوقت بين الصلوات او قطعة واحدة بين الامساك والافطار، وفي عدم مواءمة الزمن الروحي بالزمن الحداثي اليومي المربوط بجدول العمل، اغفال للعمل والعبادة في آن، فلا يستقيم للعقل ان تسير الروح حسب زمن وساعة، ويسير الجسد والعقل حسب ساعة وزمن آخر، وهي مسألة تحتاج الى بحث وتدقيق من أولي الالباب وأهل العلم والفقهاء.

موضوع رمضان كإجازة، هو موضوع شائك ايضا، ولا مناص من مواجهة اسئلته ايضا حتى نفك الاشتباك بين زمن رمضان وزمن الكريسماس، بين العبادة والروحانية، وبين مسلسلات ليلى علوي وفوازير (لا اعرف من؟!)، لكن على ايامنا كانت هناك نيللي وشريهان وغيرهما.

علاقة رمضان بالعمل، خصوصا الحكومي منه، هي اشبه بالاجازة، ولكن التوتر يأتي من ان مفهوم الاجازة الحداثي فيه اطلاق للرغبات والغرائز، بينما هذا ليس بجائز في رمضان، فأصل كلمة اجازة، من الجواز، اي نوع من الاباحة، وفي رمضان اغلاق لهذه النافذة، ولا يستقيم مبدأ الاجازة والاباحة مع مبدأ العبادة والصرامة.

الاجازة كذلك ارتبطت في اذهان الطبقة الموسورة بالسفر والتنقل، وفي السفر افطار جائز، وربما التفاف على حالة الصيام، ومع السفر ايضا تأتي حالة الاطلاق والجواز والاباحة. اذن لا تتواءم دلالات كلمة الاجازة التي اكتسبتها مع السلوك الحداثي، ودلالات العبادة وتهذيب الروح، الا اذا اعدنا تعريف المفاهيم الحاكمة لهذه العملية، كأن نقول مثلا، بأن السفر يمكن ان يكون سفرا روحيا، سفراً داخلياً يسبر اغوار النفس وطبقاتها، من النفس الأمارة الى النفس اللوامة، الى النفس الآمنة والنفس المطمئنة، وطبقات النفس وكذلك طبقات الروح متعددة، وفي الابحار فيها اجازة من السفر الخارجي اليومي والحداثي، الى السفر الداخلي الروحاني الرمضاني، هذا تفسيري الشخصي الذي استخدمه كمثال لإعادة تعريف المفاهيم في ظل علاقة ثلاثية اساسها الزمان والانسان والمكان.

فك الاشتباك بين الزمن الحداثي والزمن الروحاني، وما يتبعهما من مفاهيم مصاحبة تخص مبدأي العمل والاجازة كمثال، هي بداية لفك الارتباط بين رمضان والكريسماس، أو بينهما جميعا كحالتين دينيتين وبين الحالة الكرنفالية أو التجارية التي بدأت تسيطر على كل منهما.

عندما طرحت سؤال مستقبل رمضان وهل سيؤول مآله الى حالة الكريسماس التي وصلت فيه حالة الترفيه والاستهلاك والدعاية الى قمتها، لا اتمنى ان يفهم سؤالي على انه نقد مبطن من مسلم لاعياد غير المسلمين، وطقوسهم الدينية، فانا انظر هنا ليس الى رمضان أو الى الصوم كفريضة أو الى اعياد الميلاد المسيحية بمعناها الديني، وانما انظر الى كل منهما كحالة تاريخية يعمل فيها الزمن عمله فيحول كل منهما الى شيء ربما يبتعد كثيرا عن القصد والغرض، فما أناقشه هنا هو ليس رمضان وانما المسلمون في رمضان، بنفس الطريقة التي تتحدث فيها عن المسلمين نكون بالطبع لا نتحدث عن الاسلام ذاته.

منذ طفولتي وانا قلق من التفسيرات حتى البسيطة لمغزى ومعنى العبادة في رمضان، ولم اكن مقتنعاً أبدا بأن الهدف من رمضان هو الاحساس بالجوع حتى نتذكر معاناة الفقراء، وكنت دائما اقول لابي وهو رجل متواضع الحال، اذن الصوم لا ينطبق علينا، اذا كان الامر كذلك، فنحن فقراء، وليس هناك من هم أكثر فقرا منا، فكيف لنا ان نحس بآلامهم، على الآخرين ان يحسوا بآلامنا، وهو الرجل ذو الحكمة البسيطة، كان يبتسم ولا يجيب، كانت تلك اسئلتي كطفل صغير، واستغربت ان اجد هذا التفسير سائدا ليس في بلدنا فقط وانما في كثير من بلدان المسلمين، وانا الذي كنت اظن ان بساطة التفكير وسطحيته هذه ناتجة لأننا نعيش في قرية صغيرة معزولة في جنوب مصر.

ظني ان الموضوع أكبر بكثير من رمزية الاحساس بحالة الفقراء، وظني ايضا ان رمضان مرتبط بعلاقة الروح بالجسد، ولأن علم البيولوجيا الخاص بوظائف الاعضاء كبيرها وصغيرها هو علم محدود في بلاد المسلمين، فإن سبر اغوار مقاصد رمضان ستظل الى حد كبير غير متاحة.

وهنا ارجو ألا يساء فهمي من زاوية انني انادي بربط تفسير الدين بالعلم فهذا فخ يقع فيه الاغبياء فقط، فالعلم متجدد ومتحول وربط الثابت بالمتحول فيه تحريك للثابت وتثبيت للمتحول مما يشوه الصورة بأكملها.

تحويل رمضان الى حالة ترفيهية ليست هي المشكلة وانما ادخال رمضان مداخل جديدة تجر في ذيولها مفاهيم جديدة تعقد مسألة علاقة الديني بالدنيوي، وعلاقة المقدس بالعادي، ويدخلنا في مسائل لا قبل لنا بها، وفي موضوع آخر تحدثت عن العلاقة التبادلية بين الشارع والمسجد، مدعيا بأن سيل المصلين خارج المسجد في العواصم الأخرى، ليس معناه اتساع مساحة المقدس وتغطيتها للشارع، ليس ان الشارع اصبح مسجدا، وانما تشورع المسجد، واقمت على ذلك الدليل من خطب الشيخ عبد الحميد كشك وبعض الخطباء المشهورين الذين نقلوا لغة الشارع الى خطبة الجمع عندما تحدث عن أم كلثوم واغنية «خذني في حنانك خذني»، وقلت: ان المسجد لا يسح أو (يخرّ) في الشارع وانما الشارع، يخر في المسجد، لم يتمسجد الشارع وانما تشورع المسجد.

نفس الشيء ينطبق على الحالة الرمضانية الحالية، فلم يتحول المجتمع الى حالة روحانية وانما تحول رمضان الى حالة تجارية وترفيهية اجتماعية، اي اننا بصدد تحويل رمضان الى طقس دنيوي لا عبادة دينية أو فسحة روحية.

لا اظن انه من حقي ان اقول كيف يجب ان يكون رمضان، لكنني اشير الى اشتباك في عنقود من المفاهيم الدنيوية مثل الوقت والساعة والاجازة، ودلالاتها الحالية وعلاقة ذلك بمجموعة من الرموز الدينية، والعنقود الرمزي الكبير المشكل للحالة الروحية.

دونما فض الاشتباك بين رمضان والكريسماس والعمل والاجازة والوقت الروحاني والتوقيت الدنيوي، تبقى مسألة الصوم متوترة بين الديني والدنيوي، بين المباح وغير المباح، وبين التحريم والحظر.

رمضان مبارك عليكم وكل عام وأنتم بخير.