مراقبة معاداة السامية.. أم الجرائم ضد الإنسانية..؟

TT

في عصر يحرص العديد من الناس فيه على قيم التعايش والعدالة والكرامة الإنسانية، وعلى الابتعاد عن مظاهر صدام الأديان والحضارات والثقافات، والعودة إلى القيم الأساسية التي تعتبر البشر متساوين في الكرامة الإنسانية، يوقـِّع رئيس أقوى دولة في العالم عسكرياً واقتصادياً، قانوناً جديداً يلزم وزارة الخارجية الأميركية بإحصاء الأعمال «المعادية للسامية» حول العالم، وتقويم مواقف الدول منها بهدف الردّ بما يلزم.

وليس المراد هنا حصر الأعمال والمواقف والمظاهر العنصرية المتصاعدة ضد العرب باعتبارهم ساميين. بل المقصود من القانون مراقبة أي انتقاد لسياسات شارون الدموية. ولا بدَّ من أن نسجِّل هنا لوزارة الخارجية الأمريكية معارضتها للقانون «لأنه غير ضروري، حيث أن وزارة الخارجية الأميركية تقوم مسبقاً بجمع مثل هذه المعلومات ومنذ سنوات في تقريرها السنوي حول «حقوق الإنسان والحرية الدينية»، كما توجب الإشادة بموقف مائة شخصية أميركية وقعت رسالة لوزير الخارجية الأميركي كولن باول، تعلن فيها أن هذا الموقف «خاطئ». وليس من قبيل المصادفة طبعاً أن الرئيس بوش قد وقـّع هذا القانون على الطائرة الحربية الخاصة رقم (1) في طريقه إلى ولاية فلوريدا، وهي الولاية التي تضمّ ثالث أكبر تجمّع لليهود في العالم بعد إسرائيل ونيويورك. ويتساءل المرء لدى قراءته لتفاصيل مثل هذا الخبر ما إذا كان دور جماعات الضغط الموالين لحكومة إسرائيل في الانتخابات الأميركية قد أصبح عاملاً كارثياً في رسم السياسات الدولية للإدارات الأمريكية المختلفة.

صفة «كارثي» هي التي يمكن أن تعبّـر عن الواقع الفعلي لمثل هذه السياسات، ذلك لأن التغافل عن جرائم قتل الأطفال وتدمير المنازل وتشريد السكان المدنيين الأبرياء التي يغطيها إصدار مثل هذا القانون يكاد يستعصي على المنطق. وكذلك فإن استخدام حق النقض في مجلس الأمن لمنع الأسرة الدولية من كبح جماح الآلة العسكرية الدموية التي ترتكب في العلن وأمام العالم المتحضر أبشع الجرائم الهمجية ضد المدنيين الفلسطينيين، والسماح لإسرائيل بكل ذلك، فقط لكسب أصوات انتخابية يكاد يكون أمراً لا يـُصَدَّق أيضاً في علم السياسة والأخلاق. يضاف إلى ذلك تجاهل الإدارة الأمريكية لتقرير منظمة «هيومان رايتس ووتش»، والذي وصف جرائم إسرائيل ضد السكان المدنيين الفلسطينيين، وبخاصة الأطفال الفلسطينيين، ووصف هدم الجيش الإسرائيلي لآلاف المنازل في قطاع غزة، بأنه «انتهاك فاضح للقانون الدولي ولا يمكن أن يبرر». مع أنّ الإدارة نفسها تستخدم تقارير مشابهة للمنظمة للتنديد بحكومات أخرى.

وقال التقرير المذكور للمنظمة إن تصرفات الجيش الإسرائيلي تستند إلى مقولة تتبناها الحكومة الإسرائيلية، وهي أنّ كلّ فلسطيني هو «انتحاري محتمل»، وكل منزل يشكـّل «قاعدة محتملة لشن هجوم»، ودعت المنظمة الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى «تحميل إسرائيل مسؤولية انتهاكات القانون الدولي». وما جاء في التقرير يوضّح بأن قتل الأطفال الفلسطينيين وهم في طريقهم إلى المدارس أو على مقاعد الدراسة، أو وهم يلعبون في ديارهم، لم يكن نتيجة لخطأ أو صدفة، بل إنّ قتلهم من قبل قوات شارون سياسة رسمية معتمدة، لأنها تعتبرهم «مقاومين محتملين» للاحتلال، مما يكشف حقيقة أنّ ما تشنّه إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة والقطاع ، هو «حرب إبادة» تحت مسميات مختلفة من «الحلّ الجذري» إلى «عملية الندم»، لأن نظرية شارون المعروفة هي أنّ أمن إسرائيل لا يتحقق طالما أن هناك فلسطينياً يؤمن بحقّـه في أرضه ودياره.

الخطورة في توقيع هذا القانون الجديد، أنّه يخلط بين الدين والعرق والكيان السياسي. فإذا كان القانون الموقع يستهدف فعلاً كلّ من يظهر عداء للسامية أو الساميين، والمقصود من ذلك الشرقيون بملامحهم ولغاتهم ودياناتهم، فلا شك أنّ العرب يجب أن يكونوا مشمولين بهذا القانون، لأنهم ساميّون ولأنّ مظاهر العداء لهم تفوق اليوم في الولايات المتحدة وأوروبا مظاهر العداء لليهود. وإذا كان القصد من هذا القانون حماية معتنقي الدين اليهودي، فإن قوانين جميع الدول في العالم تحرّم معاداة اليهود، ولكن بات من المعترف به دولياً اليوم أنّ معتنقي الدين الإسلامي يتعرضون إلى حملة ظالمة، تتهمهم علناً في جميع وسائل الإعلام بالإرهاب، لأنّ بعضاً ممّن يدّعون الإسلام قرّروا الإساءة للإسلام والمسلمين باسم الحرص على الدين الإسلامي، والدين الإسلامي مما يعملون براء.

أما إذا كان الهدف من هذا القانون هو كمُّ الأفواه، ومنع المعارضين لحرب الإبادة التي يشنّها نظام شارون ضدّ المدنيين، من التعبير عن معارضتهم لسياسات القتل والتدمير، وكذلك ابتزاز المجتمع الدولي بحيث لا يتجرأ أحد على انتقاد سياسات شارون الإجرامية ضدّ الشعب الفلسطيني الأعزل، مهما وصلت هذه الجرائم من انتهاك للقانون الدولي والإنساني، فهنا تكمن الخطورة الكبرى. وهذا ما بدأت ملامحه بالاتضاح مباشرةً بعد صدور القانون.

فقد اضطر الصحفي الفرنسي آلان مينارغ، نائب مدير عام إذاعة فرنسا الدولية (ار. إف. أي) إلى تقديم استقالته من راديو فرانس انترناشينال، لأنه أكد أنه يجب أن توجّه إلى «إسرائيل» الانتقادات كما توجه لبقية الدول، وليس هناك أحد فوق القوانين الدولية. ولا شكّ أنّ إرغام مينارغ على الاستقالة من منصبه، لأنه عبّر عن رأيه بسياسة وصفها الكثيرون بأنها عنصرية، وترتكب جرائم بحق الإنسانية وتخرق القانون الدولي، هو تعبير صارخ عن سياسة كمّ الأفواه التي تتبعها جماعات الضغط الموالية لإسرائيل. الاستنتاج إذاً أن قانون معاداة السامية يهدف تبرير كل ما ترتكبه إسرائيل من جرائم وحرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، ومنع العالم المتحضر من إدانة مرتكبي هذه الجرائم. لقد أكد بيتر هانسن مفوّض وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا)، أنّ عمليات تدمير المنازل التي قامت بها القوات الإسرائيلية في مخيم جباليا تشكّل انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي والإنساني وقال: «حين أرى هذا الدمار أتساءل إن كانت الأسرة الدولية ستساعدنا على مواجهته». إن أول خطوة تقود الأسرة الدولية إلى المساعدة هي رفع سوط الإرهاب السياسي عن كلّ من ينتقد سياسات إسرائيل الإجرامية، والتوقف عن الخلط بين انتقاد سياسة حكومة يحتلّ جيشها بلداً آخر، ويقوم بجرائم قتل وتدمير، ويشنّ حرب تصفية جسدية ضدّ كل من هو فلسطيني وبين مجريات حدثت أكثر من خمسين سنة خاصة أنّ هذه الحكومة تحوّلت إلى جلاد دموي يحرم شعباً كاملاً من حقه في الحرية والاستقلال. فنحن الآن في القرن الحادي والعشرين والخطر الذي نواجهه اليوم يكمن في ابتزاز العالم ليصمت عن الجرائم التي ترتكب ضدّ العرب تماماً كما تمّ ابتزاز العالم يوماً ما ليصمت عن الجرائم التي ارتكبت بحقّ اليهود في أوروبا، وكما أن النتائج في حينها لم تقتصر على اليهود فإن نتائج هذا الموقف الخاطئ لن تقتصر على العرب إذ أصبحت الإنسانية اليوم في قارب واحد، وعلى كلّ الحريصين عليها إنقاذها من الطغاة الجدد الذين يسعون إلى مواصلة صدام الأديان والحضارات والثقافات. إنّ ما يحتاجه العالم اليوم ليس قوانين جديدة لمنع معاداة السامية فهذه الظاهرة اختفت كلياً، وتمّ استبدالها من قبل ضحاياها بظاهرة معاداة العرب وبوحشية دموية متصاعدة. بل هناك حاجة دولية لمواقف تسمي الجرائم بمسمياتها بغضّ النظر عن لون أو دين أو عرق من يرتكب هذه الجرائم. إننا بحاجة إلى آلان مينارغ وبيتر هانسن وهيومن رايتس ووتش والكنيسة الانجيلية المشيخية ورئيسها كلفتون كيرك باتريك، الذي أكد أن «الاحتلال هو الذي يهدّد إنسانيتنا جميعاً، وأنّ الدعم اللامحدود لسياسات شارون الدموية يهدّد أمننا جميعاً».

ولا شك أن المواقف العنصرية من العرب تهدد الأسس التي تتفاخر بها الديمقراطيات الغربية، وتترك سياسات القوة العظمى رهينة لجرائم شارون. ويقتضي دعم الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل الحرية والإستقلال وانقاذه من أبشع الجرائم التي ارتكبتها أي حكومة في القرن الحادي والعشرين، الوقوف مع العدالة والقانون الدولي، بعيداً عن النظرة العنصرية الموظفة لأغراض سياسية والمستثمرة في حملات انتخابية.