الانسحاب من غزة .. جرعة الموت الأولى

TT

ترى هل دخل دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون «المنطقة الإسرائيلية الحرام» بجعله المستور مباحاً، في مقابلته مع صحيفة هآرتس بتاريخ 8 اكتوبر الحالي ، أم أنه نفذ تكتيكاً شارونياً جديداً «العب على المكشوف وبعدها استرح وأرح»، لأهداف داخلية إسرائيلية بالأساس؟

أياً تكون حقيقة الأمر فالنتيجة في كلتا الحالتين سيان، إذ كشف شارون أوراقه كلها. ولم يقف فايسغلاس عند هذا الحد، بل مضى بعيدا بعدم إخفائه كون الأفكار الشارونية تتطابق مع الرؤية السياسية الأميركية. لم يعد ثمة باطن وظاهر، فأين من كل هذا أصحاب المشاريع الترقيعية والجزئية والخطوات الصغيرة.

على امتداد الأربع سنوات الماضية من عمر انتفاضة الاستقلال، أكثر ما ساء السواد الأعظم من أبناء شعبنا المكافح، رؤيتهم لأهل أوسلو وهم يشرّحون الانتفاضة، بإغفالهم لمنجزاتها، وبتضخيمهم من الآثار السلبية لبعض الشوائب التي لحقت ببعض فعالياتها. في البداية وصفوها باليقظة الجزئية العابرة، ولما اشتد عودها خاضوا معها صراعاً مكشوفاً ودامياً، في محاولة خبيثة لتصفية الحساب مع هذه الملحمة الشعبية التي أسقطت نهجهم المقامر والتسلطي على مساحة سنوات رحلة الأوهام الأوسلوية. وتحت شعارات واقعية مزيفة راحوا يحاولون إعادة الروح لمشاريعهم اليباب، تارة بالرضوخ لمطلب إسرائيل المعزز أميركياً بإدانة المقاومة الفلسطينية المسلحة ووصمها بالإرهاب، وتارة أخرى بتحميلهم لما سموه بـ «عسكرة الانتفاضة» نتائج تصاعد السياسة التوسعية الدموية الإسرائيلية، وبناء جدران الضم والفصل العنصرية، وإسهال البيانات الاستنكارية في أعقاب كل عمل مسلح يسقط من جرائه مدنيون إسرائيليون، متغافلين عن آلاف الضحايا الفلسطينيين.

لكن من دون الاستطراد أكثر في تعرية هذه السياسات العارية، نتساءل هل سيُخرِجُ بوح فايسغلاس هؤلاء من أوهامهم المُخسِّرة في إعادة وصل ما انقطع من ودٍ مُتكلف باعهم إياه بعض أركان الإدارة الأميركية أمام عدسات الكاميرات، ويُخرج الحالة الرسمية العربية من حالة السبات الدماغي المطبق؟!

ما قاله فايسغلاس خطير جداً وساطع الوضوح، الهدف الرئيس من وراء طرح خطة الفصل الأحادي الشارونية هو «تجميد العملية السياسية، بما هي مجموعة من المفاهيم والالتزامات»، كونها حسب فايسغلاس، تقوم على إقامة دولة فلسطينية مع كل المخاطر الأمنية التي ينطوي عليها ذلك. العملية السياسية هي إخلاء المستوطنات، وإعادة اللاجئين الفلسطينيين، وتقسيم القدس، وكل هذا جمد الآن. وحتى تتضح فكرته السابقة أكثر يتابع فايسغلاس «كانت هنا رزمة صعبة جداً من الالتزامات توقعوا الحصول عليها من إسرائيل … ولكننا نجحنا في أخذ هذه الرزمة ونقلها إلى ما وراء جبال الزمن، بإدارة صحيحة نجحنا في إزالة قضية العملية السياسية عن جدول الأعمال». ومواربة قالها فايسغلاس، ما جرى كان بتوافق يصل إلى حد التطابق بين الفهمين السياسيين لإدارة بوش الابن وحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية.

إن ما سبق يؤكد حقيقة أن الخطة الشارونية هي الجزء المعلن من خطة سياسية إسرائيلية ـ أميركية لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، بحيث يأتي الحل النهائي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والعربي ـ الإسرائيلي، ضامناً لـ «احتفاظ إسرائيل» بحدودها التوسعية، وشطب جوهر القضية الوطنية الفلسطينية، على أن يجري تنفيذ ذلك على أربعة مراحل:

المرحلة الأولى تحققت بتعطيل العملية السياسية التي دعت لها خطة خريطة الطريق الدولية، بتعميم شارون لأكذوبة «عدم وجود شريك فلسطيني». وترافق هذا مع البدء بمجزرة بناء جدران الضم والفصل العنصرية، وتسمين الكتل الاستيطانية القائمة لفرض الواقع الاستيطاني التوسعي الإسرائيلي كمقرر لشكل الحل النهائي. وفي هذا السياق، يرى شارون بأن من حق إسرائيل تحت دعوى «محاربة الإرهاب الفلسطيني» العمل على تجاوز العقبات التي تحول دون تنفيذ خطته والمتمثلة بالانتفاضة والمقاومة الفلسطينية. وحسب التقديرات الإسرائيلية، فإن الانسحاب من غزة سيقود إلى سحب البساط من تحت أقدام الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية، وتجزئة العملية النضالية الفلسطينية، وإيجاد تعارض بين مصالح أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الفلسطينية. ومن أجل تكريس هذا الواقع سيسعى شارون إلى سحق المقاومة في القطاع بما يمهد لنشوء قيادة فلسطينية محلية تقود القطاع في مرحلة «الوضع الانتقالي»، والمعلوم أن الجزء الأول من هذه الأهداف قد تحقق بمجرد الإعلان عن الخطة، وبقية الأهداف يجري العمل على تحقيقها بمجازر عملية «أيام الندم» المتواصلة، واستمرار بناء جدران الضم والفصل العنصرية، وخنق القدس عبر تطويقها بالمستوطنات. والضامن للاستمرار في تنفيذ ما تبقى من أهداف مغطى بضمانة أميركية تجلت في رسالة الضمانات الأميركية لإسرائيل «رسالة بوش» التي تلتزم واشنطن من خلالها بدعم ضم إسرائيل للكتل الاستيطانية الكبرى، وبرفض التعامل مع القيادة الفلسطينية الحالية.

المرحلة الثانية: الإبقاء على الوضع القائم في غزة إلى فترة تمتد عشر سنوات، يتم من خلالها التفرغ لاستكمال مخطط بناء جدران الضم والفصل العنصرية التي تسرق 58% من إجمالي مساحة أراضي الضفة الفلسطينية، واستكمال تهويد القدس. ويمكن خلال هذه المرحلة تطبيق عدد من الخطوات الأحادية الإسرائيلية، على سبيل المثال، نبضات إعادة انتشار من المناطق الفلسطينية ذات الكثافة السكانية، وتحقيق «التواصل الطرقي» بين أجزائها المتناثرة. ومقابل الانسحاب من غزة تضغط واشنطن على الدول العربية للعودة إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل من دون ربط ذلك بأسس وشروط حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

المرحلة الثالثة: تتداخل مع المرحلة الثانية، ويتم خلالها الاتفاق على قيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة قد يتم الإعلان عنها في مراحل مبكرة من المرحلة الثانية، ولكن بسقف زمني مفتوح، «فايسغلاس يقول إنه قد يستمر لعشرات السنوات»، ويتم خلال هذه المرحلة بلورة أسس الحل النهائي ضمن الشروط والمحددات الإسرائيلية المدعومة بحقائق الاستيطان على الأرض.

المرحلة الرابعة: فرض الحل النهائي بالشروط الإسرائيلية، ضم 58% من مساحة الضفة الفلسطينية، تهويد القدس، شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين بالتوطين أو إعادة التهجير، عزل الفلسطينيين في مجموعة جزر متناثرة مؤتلفة صورياً بدولة «مستقلة»، وحقيقة الأمر لا يعدو كونها مجرد كيان منقوص السيادة وغير متواصل جغرافياً، والطامة الكبرى في ما حمله افتضاح حقائق أهداف المخطط الشاروني على لسان صديقه القديم الوفي فايسغلاس، فأكثرها معلومة لنا، وقد حذرنا منها مراراً، بل الخلل الأكبر باستمرار غياب استراتيجية فلسطينية موحدة، تعيد استنهاض وبناء العملية الوطنية الفلسطينية، وتؤطر قوى الانتفاضة والمقاومة في مؤسسات وبنى جبهوية ائتلافية تكون قادرة على النهوض بمهمة التصدي للمشروع الشاروني المدمّر. وعلينا أن ندرك بأنه رغم اشتداد الهجمة الشارونية، إلا أن الطريق أمامها غير سالك، وهذا ما يقرّ به فايسغلاس صراحة، ومن قبله أقرَّ به العديد من أركان حكومة شارون وحتى شارون نفسه. فلا أفق على المدى المتوسط لاستمرار استفراد الولايات المتحدة ووضع نفسها فوق القانون والشرعية الدولية، لأن سياسة واشنطن المبنية على إرهاب الدولة المنظم والحامية لإرهاب الدولة المنظم في إسرائيل، تلقى معارضة الأغلبية الساحقة من دول العالم، والمأزق الأميركي المتفاقم في العراق بات يحمل نذر أزمات داخلية أميركية تذكرنا بعشية الأزمة الكبرى التي سببتها الحرب العدوانية الأميركية على فيتنام، وما تلا ذلك من انكسار وانكفاء العدوانية الأميركية، وبدون استمرار زخم الدعم الأميركي لن تستطيع أسس حكومة إسرائيلية الاستمرار في تجاهل الحقوق الفلسطينية.

ويبقى أن نشدد على أنه حتى نستطيع عبور المأزق الراهن الذي نعيشه فلسطينياً، يجب أن نبني استراتيجية فلسطينية تقوم على مجموعة العناصر التالية:

التمسك بالشرعية الدولية كأساس لازم لحل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والعربي ـ الإسرائيلي. تعزيز العملية الوطنية الفلسطينية ككل والانتفاضة والمقاومة على وجه الخصوص بإنجاح الانتخابات المقبلة على مختلف مستوياتها قروية، بلدية، تشريعية، رئاسية، كمدخل لإعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية على أسس ائتلافية وديمقراطية ينتفي فيها الفساد والفاسدون. تهديف المقاومة وتركيزها ضد قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين. هذه العناصر الثلاثة كفيلة باستنهاض الحالة الفلسطينية، وجعل ذلك رافعة لاستنهاض الوضعين العربي والدولي.

ومن دون الدخول في تفاصيل اللعبة السياسية الداخلية الأميركية والإسرائيلية، نعود لنؤكد أنه لن نستطيع التحول من حالة الدفاع إلى الهجوم السياسي إلا بامتلاكنا لاستراتيجية فلسطينية موحدة، قيادة موحدة، حكومة وحدة وطنية. حتى لا يتحقق حلم بن غورين بـ «أرض أكثر، عرب أقل».

* الأمين العام

للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين