الاختبار اليوم.. والنتيجة غدا: غزة أولا.. أم غزة أولا وأخيرا ؟

TT

اكتشفت خلال جولة لي في الشرق الأوسط الشهر الماضي، كم من الممكن للمرء أن يعرف عن بلد بمجرد السفر على خطوطه الجوية، فأفلام الفيديو التي تعرضها شركة العال الإسرائيلية حول مشاهير إسرائيل، تعطي انطباعا عن بلد متعطش لمادية الغرب وما تراه بأنه أمر طبيعي. لكن كل شيء آخر حول شركة العال للطيران ينقل معلومات عن بلد واقع تحت هجوم عنيف، وهذا يشمل التفتيش الذي يستغرق وقتا طويلا، مع تحقيقات تفصيلية وفحص كيميائي للحقائب عن وجود متفجرات، وتواجد رجال الأمن الشباب في كل مكان، على حافلات المطار وداخل الطائرات.

في المقابل يتميز الفحص على الخطوط الجوية المصرية بسطحيته، لكن حالما يصبح الركاب داخل الطائرة، فإنهم سيشاهدون فيلم كرتون عن حرب أكتوبر 1973. وإذا كانت أفلام فيديو شركة العال تزعم أن إسرائيل ليست في حرب مع الفلسطينيين، فإن مصر للطيران تزعم أنها ليست في حال سلام مع إسرائيل. ولا بد أن الشرق الأوسط سيكون مكانا أفضل لو أن العكس كان صحيحا: أن تعترف إسرائيل بواقع فلسطين وأن يقبل العرب بواقع إسرائيل، فخلال السنوات الأربع الأخيرة من إراقة الدماء منذ اندلاع الانتفاضة الثانية وإسرائيل تحاول سحقها، ومنذ ذلك ما عاد هناك أي أمل كبير لتحقيق السلام، لكن هذا الأسبوع برزت أخيرا إمكانية كسر دورة العنف الرهيبة.

فآرييل شارون سيذهب اليوم الاثنين (وفق ما هو معلن) إلى الكنيست للحصول على مصادقة البرلمان الإسرائيلي لخطته الهادفة إلى تحقيق الفصل مع الفلسطينيين عن طريق الانسحاب من قطاع غزة. وهو يخطط لتفكيك المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة، والتي تحتل حوالي ربع أرضها، إضافة إلى فك أربع مستوطنات في الضفة الغربية. والرجل المعروف باسم «البلدوزر» (الجرافة) للطريقة التي اتبعها في بناء المستوطنات يخطط حاليا إلى جرف اليهود من غزة. وأي شخص يظن أن شارون يخادع حول مغادرة غزة، عليه أن ينظر إلى الطريقة التي انهار فيها ائتلافه الحاكم والسؤال المطروح الآن هو: ماذا سيفعل بعد غزة؟

في رام الله هناك شك عميق، فالفصل حسبما قال أبو العلاء رئيس الوزراء الفلسطيني هو مجرد وضع غزة داخل سجن حيث ستكون محاطة بمناطق عازلة مع بقاء المفاتيح بيد الإسرائيليين. ويرى الفلسطينيون أن شارون ينصب فخا عن طريق إظهار بأنه ينسحب من غزة، وهذا ما يمكنه من إكمال احتلال الأجزاء الأكبر من الضفة الغربية، وبصيغة أخرى قد يكون شعار «غزة أولا» لا يعني سوى «غزة أولا وأخيرا».

مع ذلك فإنه من اللازم تشجيع مبادرة شارون وتوسيعها باتجاه عملية أوسع. فعلى الأقل هي خطوة لا سابق لها في السياسة الإسرائيلية، وفيها يكون ممكنا إزاحة المستوطنين من أجزاء من فلسطين التاريخية. بل وحتى إسحق رابين لم يمتلك الشجاعة التي تمكنه من إخراج اليهود مما يعتبرونه «أرض إسرائيل». فمثل رابين اتهم شارون بـ «الخيانة» ومثل رابين تخشى وكالة الاستخبارات «شين بيت» من محاولة اليهود المتطرفين قتل شارون.

يمكن القول إن الفلسطينيين الذين يعارضون خطة «الفصل» يضعون أنفسهم في نفس مخيم المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين. فقد تكون خطة شارون دون الحد الأدنى من مطالب الفلسطينيين، لكن الوقت ليس في صالحهم. وقدرتهم على ضرب إسرائيل سيتم تقليصها بعد إكمال الجدار الأمني الفاصل، وستختفي الضفة الغربية تدريجيا تحت إسفلت واسمنت إسرائيل.

يحتاج الفلسطينيون، ومعهم الدول العربية أن يتبنوا استراتيجية أفضل. ويجب أن تبدأ من الاعتراف بأن الانتفاضة مثلما استخدمت حاليا قد فشلت، فبدلا من أن تكون آخر عملية دفع صوب الاستقلال، أعادت الانتفاضة الفلسطينيين إلى الوراء لعقد من الزمن أو أكثر. أخبرني عضو في السلطة الفلسطينية أن أخطاءنا قد سمحت لشارون بإخفاء جرائمه.

فخلال السنوات الأربع الأخيرة قتل 3500 فلسطيني و1000 إسرائيلي. وتمت إعادة احتلال الضفة الغربية وظلت تقع في قطاع غزة غارات شديدة القسوة، حيث ظلت القوات الإسرائيلية تطارد الناشطين كما يحلو لها في الوقت الذي تحطمت السلطة الفلسطينية، وإسرائيل ترسم من طرف واحد حدودها.

وقد يكون الأكثر سوءا من ذلك كله أن بقية العالم أصبح بشكل عام غير مبال.. فللكثيرين في الغرب لا يختلف انتحاريو حماس كثيرا عن منفذي هجمات 11 سبتمبر. وأميركا التي وصلت إلى كابول وبغداد باسم الحرب على الإرهاب لن تطلب من إسرائيل عدم الذهاب إلى رام الله وجباليا. كذلك راح الأوروبيون وبعض البلدان العربية يسعون لتقليص دعمهم المالي للسلطة الفلسطينية التي لا تدري الآن كيف ستدفع رواتب الشهر المقبل. وفي مصر وجدت أن المسؤولين الكبار يرفعون أكتافهم تعبيرا عن عجزهم على فعل شيء ما قائلين إنه يجب لوم كل من شارون وعرفات.

ألحق الفلسطينيون قدرا كافيا من الأذى بإسرائيل لإقناع شارون بالانسحاب من غزة، لكنهم فشلوا في إقناع إسرائيل بأنها ستكون في أمان إن هي انسحبت من الضفة الغربية. ومن المفارقة أن الفلسطينيين يشكلون إحدى القوى المؤثرة في السياسات الإسرائيلية. فهم قد دمروا حكومتي شيمون بيريس العمالية عام 1996 وإيهود باراك عام 2001، وجاءوا بدلا منهما ببنيامين نتنياهو وآرييل شارون. ويحتاج الفلسطينيون الآن تعلم فن تشجيع أي اعتدال إسرائيلي. تشكل غزة نقطة انطلاق جيدة، بالمقابل على الفلسطينيين أن يوافقوا مقابل الانسحاب من قطاع غزة على أن يوقفوا تماما العمليات العدائية ضد إسرائيل في قطاع غزة. وعلى الفلسطينيين أن يسعوا في الضفة الغربية للتفاوض مع عرض بوقف إطلاق النار مقابل استئناف محادثات السلام حول الضفة الغربية. ولدى عمر سليمان رئيس المخابرات المصرية فكرة صحيحة تتمثل في السعي للتفاوض من أجل الوصول إلى اتفاق لربط خطة الفصل الخاصة بغزة مع «خارطة الطريق» الدولية للسلام. وإذا نجح فإن قوات الأمن المصرية تستطيع العودة إلى غزة بصفة «استشارية» للمرة الأولى منذ عام 1967، ويكون بالإمكان لمراقبين دوليين أن يشرفوا على إعادة فتح ميناء ومطار غزة. وأينما يبقى الاحتلال فإن أي «مقاومة» يجب أن تستهدف فقط الأهداف العسكرية في الأراضي المحتلة، فيما تحتاج منظمتا حماس والجهاد بشكل خاص أن تفهما بأنهما قادرتان على استرجاع أراضي ما قبل 67 من خلال تخليهما عن المطالبة بأراضي عام 1948 .

وتستطيع الدول العربية القيام بالكثير للمساعدة. فمن خلال دعم إعلان بيروت لعام 2002 والذي طرحت فيه المبادئ التي تقف عليها مبادرة السلام مقابل الأرض، عليها أن تعرض أيضا، وبشكل مفتوح، سلسلة من «المكافآت» الواضحة لكل خطوة تتخذها إسرائيل في تنفيذ خارطة الطريق. في الوقت نفسه عليها أن تقوم باستمرار بإدانة الهجمات على المدنيين كانوا فلسطينيين فحسب أو إسرائيليين.

وأخيرا.. فبوسع شركتي مصر للطيران والعال القيام بعمل ممتاز إن هما أخبرتا ركابهما، بأنه حتى في هذه الأوقات العسيرة، يظل تحقيق السلام ممكنا. وأن نهاية قتال استمر قرنا كاملا بين العرب واليهود، سيجلب للمنطقة ملايين من السياح الأجانب. لذلك فبدلا من الأساطير والأمور الساذجة فمن اللازم أن تظهر أفلام الفيديو على متن طائرات هاتين الشركتين الجويتين تلك المصافحات التاريخية الشهيرة: بين السادات وبيغين، وبين رابين وعرفات والملك حسين ورابين.

*المحرر الدبلوماسي في صحيفة الديلي تلغراف اللندنية ومؤلف كتاب «الأرض المقدسة والحرب غير المقدسة: الإسرائيليون والفلسطينيون» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»