استفتوا أهالي غزة حول الانسحاب الإسرائيلي

TT

كثيرة هي المفارقات التي تجري في اسرائيل وفي فلسطين، وبالذات في مجلس النواب الاسرائيلي (الكنيست) وفي المجلس التشريعي الفلسطيني. في الكنيست، يوم الاثنين الماضي، قال رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون انه مصمم على المضي قدما في خطته للانسحاب من قطاع غزة ومن اربع مستوطنات في الضفة الغربية، رغم كل «المصاعب» التي ستتشكل على اسرائيل، بعد 15 دقيقة من بدء خطبته امر رئيس الكنيست بطرد افي ايتام رئيس الحزب الديني الوطني من القاعة، لكثرة ما قاطع شارون، وبعده تم طرد عضوين من الجناح اليميني ادري ارييل وزفي هندل، للسبب نفسه. واللافت في كلمة شارون قوله:

انه اتهام خاطئ ذلك الادعاء بان خطة الفصل هذه تتناقض مع كل مواقفه الماضية، «لقد كررت وبوضوح انني ادعم قيام دولة فلسطينية وانني مستعد لاتخاذ خطوات مؤلمة اخرى». في كلمته ناقض شارون ما جاء في مقابلة لمستشاره الرئيسي دوف ويسغلاس قبل عدة اسابيع من ان خطة الانسحاب مصممة من اجل اقامة الدولة الفلسطينية. وقال شارون: «ان خطة الفصل لا تأتي محل المفاوضات، انها ضرورية خلال مرحلة يتعذر فيها اجراء المفاوضات، لكن كل الخيارات مفتوحة عندما يتوقف الارهاب».

في هذه الاثناء وعلى الجانب الآخر أي على جانب البرلمان الفلسطيني، وقع ثلث اعضاء المجلس التشريعي على عريضة حذروا فيها من توقع الفوضى في الضفة الغربية وغزة. ودعا النواب الى وضع سياسة اصلاحية تهدف الى القضاء على الجريمة ووقف الهجمات التي يشنها المتمردون المنتسبون الى تنظيم فتح على مؤسسات السلطة الفلسطينية والمجلس التشريعي، ودعوة الى اقالة رئيس الوزراء احمد قريع الذي يحمِّلونه مسؤولية انهيار الامن والنظام.

واشتكى النواب الفلسطينيون من ان مجموعات فلسطينية مسلحة يقوم باستئجارها كل من يريد الانتقام من منافسيه السياسيين، وقالوا ان قوات الامن التابعة للسلطة فشلت في حماية الفلسطينيين ومؤسسات السلطة في الضفة وغزة. وكان عماد فالوجي ـ المتحالف مع حماس ـ قال في الجلسة التي عقدت في 21 الشهر الجاري ان الحكومة ووزير الداخلية مسؤولان عن تدهور الاوضاع الامنية، انهما لا يقومان اطلاقا بملاحقة المعتدين او ملاحقة من يمولهم ويسلحهم، وبعض هؤلاء المسلحين يشنون هجماتهم في وضح النهار ومن دون اقنعة لانهم واثقون ان احدا لن يحاسبهم.

حتى الآن وقّع 24 نائبا فلسطينيا على عريضة تطالب باقالة احمد قريع وحكومته، وسوف تعقد جلسة التصويت على سحب الثقة منه في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عندما ستمثل الحكومة الفلسطينية امام البرلمان لمراجعة ادائها. وكانت جلسة الاسبوع الماضي عُلقت مرتين تجنبا للعنف بسبب تهديد نواب لزملائهم النواب، الى درجة ان النائب عزمي شعيبي حذر بانه سيأمر بهجوم على رئيس اللجنة المالية في البرلمان سعدي الكرنز.

ايضا، خلال الاسبوع الماضي جرح ثمانية فلسطينيين خلال اصطدامات دامت ليلة كاملة ما بين افراد جهازين امنيين، وفي جنين هاجم متمردون من فتح مكاتب السلطة والنواب. ويذكر انه في شهر تموز (يوليو) الماضي، اطلق «مجهول» النار على عضو البرلمان نبيل عمرو الذي كان ينتقد اداء رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، ونقل من رام الله للعلاج في عمان ثم في المانيا، وقد ارسل عمرو رسالة الى المجلس التشريعي يتهمه فيها بتجاهل الهجوم عليه. اما النائب برهان جرار فقال: اننا نعيش في وضع تحتاج فيه القوات الامنية الى الحماية، والاخطر ان القوات الامنية هذه تدين في ولائها لبعض الاشخاص وهي متورطة في العديد من المشاكل.

وبينا كان شارون يحضر للحصول على موافقة حكومته على خطة الفصل (حصل عليها يوم الاحد الماضي) واقناع الكنيست بالموافقة عليها، تأكد انهيار السلطة الفلسطينية وتضعضعها. فعرفات الذي اصر على البقاء في «المقاطعة» معتقدا انه في بقائه يسجل انتصارات يومية على اسرائيل التي تريد «اقتلاعه» من صلب القضية، مريض ونتمنى له الشفاء، اما نبيل شعث وزير الخارجية في حكومة احمد قريع فقد جال على المجموعة الاوروبية بحثا عن خيط انقاذ على الاقل لمرتبات الموظفين. وبينما كانت الامم المتحدة تقول انها في حاجة الى 200 مليون دولار لتحافظ على تقديم خدماتها الى اللاجئين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. وتقدم منظمة الاونروا قائمة باحتياجاتها، خلال مؤتمر للدول المانحة عقد في عمان (14 الجاري) ويقول أمينها العام بيتر هانسن ان الاونروا حصلت على 43% من اصل 209 ملايين دولار تحتاجهم لعام 2004، لم يلحظ المسؤولون الفلسطينيون ان لجنة اوروبية وهولندا فقط من اصل 26 دولة مانحة، شاركتا في المؤتمر وتعهدتا بمبلغ 27.6 مليون دولار فقط.

الغريب انه ما ان عقد المؤتمر للحصول على اموال للتخفيف من معاناة اللاجئين، حتى اشتبكت الاجهزة الامنية الفلسطينية في صراعات مسلحة داخل غزة، وقيل يومها ان سبب الاشتباكات محاولة من مجموعة داخل فتح تجريد «الجنرال» موسى عرفات من صلاحياته. وعرفات الصغير هذا، متهم بالفساد وبتعذيب مناوئيه. وجهاز الامن الوقائي معروف بولائه لزعيمه السابق محمد دحلان، وكان دحلان حاول الدفع لاستقالة مساعدين اساسيين لعرفات، ولم تكن هذه المرة الاولى التي يُستهدف فيها عرفات الصغير، لكنها جاءت بعد ضغوط مارسها المجلس التشريعي على عرفات الكبير للمباشرة باجراء الاصلاحات. وربما لتخفيف الاحراج عن ياسر عرفات اثر تلك المعركة الداخلية بين الاجهزة الامنية، اعلن محمد رشيد المستشار المالي الخاص لعرفات انه مستقيل من منصبه ابتداء من اول السنة المقبلة. ورشيد يتمتع بثقة عرفات فهو ادار مالية السلطة الفلسطينية بكل استثماراتها وتشعباتها الكثيرة، لكنه منذ سنة يقيم في القاهرة بعد تلقيه تهديدات بالقتل. ربما لكل هذه المشاحنات الداخلية في غزة تسعى اسرائيل لنشر قوة مراقبين دوليين على طول الثمانية كيلومترات وهي الحدود بين مصر وغزة اثر انسحابها عام 2005. وقال مستشار الامن القومي الاسرائيلي الجنرال جيورا ايلاند، ان منازل الاف الاسرائيليين في مستوطنة قطيف سيتم تدميرها.

ليس مفهوما هذا الموقف الفلسطيني من خطة الفصل. واذا كان بعض السياسيين الاسرائيليين يدعون لاجراء استفتاء حول خطة شارون، لماذا لا يطرح احد السياسيين الفلسطينيين فكرة اجراء استفتاء بين اهالي غزة الذين من دون شك يؤيدون الانسحاب الاسرائيلي، فقد شبعوا مثلا من تصريحات نايف حواتمة الذي يندد بالانسحاب الاسرائيلي. لقد تغير العالم وبعض المخضرمين الفلسطينيين لم يتغيروا، وعلى سبيل المثال، فقبل 26 سنة وقف ايهود اولمرت نائب شارون اليوم والقى خطابا في الكنيست ضد الانسحاب من سيناء، وحذر يومها حزبه الليكود من ان الانسحاب من سيناء مقابل السلام مع مصر، سيصبح سابقة لانسحابات لاحقة في الضفة وغزة، ويقف اليوم اولمرت نفسه ليدفع شارون الى الانسحاب من كل غزة ومناطق اخرى في الضفة.

ان تصويت الكنيست على خطة الانسحاب من غزة، حتى ولو لم يكن حاسما انما هو مهم جدا بالنسبة الى مستقبل الليكود ومستقبل اسرائيل بالذات، وعلى المسؤولين الفلسطينيين ان يلتفتوا الى ما يجري، خصوصا ان شارون لن يقتنع باجراء استفتاء شعبي، فالاستفتاء عذر يختبئ وراءه بعض الليكوديين، وهو بالون اختبار لا يحتوي شيئا، ثم ان اسرائيل لم تطرح أي قرار مصيري على الاستفتاء العام، واما ان يستمر شارون في عملية الفصل او تتوجه اسرائيل الى انتخابات مبكرة، والخيار الثاني مستبعد، والاقرب ان يجري شارون تعديلا وزاريا.

ان اسرائيل تخطط وصواريخ القسام تُطلق ويدفع الفلسطينيون الثمن. واخيرا كان دور خان يونس، ويبرر المعلقون الفلسطينيون، ان ما يجري «دفاعا عن الامة». هذه الامة ليست في حاجة الى دماء الابرياء الفلسطينيين، يكفيهم ما هم فيه، وعن أي امة يدافعون، اذا كان الرئيس العربي، يتكرر انتخابه بنسبة 95% في كل مرة. ما اروع ما حصل في افغانستان فقد فاز رئيسها حامد كرزاي بنسبة 55%، فمتى يُتاح للفلسطينيين التوجه الى صناديق الاقتراع ليعبروا حقيقة عما يجول في اعماقهم؟