التعدد السياسي الحزبي في المغرب ومأزق الاصلاح

TT

شكل حدث مرور خمس سنوات على تجربة التناوب التوافقي وتقلد الملك محمد السادس دواليب السلطة والحكم، مناسبةً لفتح نقاش حول مآل التحول الديمقراطي وأسئلته الجديدة المطابقة للتغيرات المحلية والاقليمية والدولية، وحرص المشاركون في هذا النقاش عبر الصحافة المغربية، على بلورة جدل سياسي إيجابي في موضوع تقييم تجربة التناوب التوافقي وأدوار المؤسسة الملكية في هذا الباب، واتسم النقاش بتنوع واختلاف وجهات النظر، حيث تم استعراض المكاسب والمنجزات في المجال السياسي، كما تم وضع الأصبع على السلبيات وصور التراجع وعلاقة الشعارات والمبادئ العامة بالوقائع والأحداث.

مقابل ذلك، وفي إطار توسيع النقاش وفتحه على أسئلة الاصلاح في أبعادها المختلفة، وجه العاهل المغربي محمد السادس في الجمعة الأولى من شهر أكتوبر، وهو يوم الافتتاح الرسمي للدورة البرلمانية الجديدة، خطاباً انتقد فيه التعددية الحزبية في المغرب، وحاول بلورة جملة من العناصر الموجهة للتفكير بطريقة جديدة في المشهد الحزبي، سواء في مجال البنية أو الخيارات والبرامج وآليات العمل.

عكست الانتقادات مختلف سلبيات الوضع الحزبي، وقدم الخطاب مقترحات في باب إعادة تركيب هذا المشهد في بلادنا، وذلك استعداداً للانتخابات التشريعية المقبلة التي ستجري خلال سنة 2007.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن واقع العمل الحزبي في المغرب، يعد محصلة لتجربة طويلة في مجال الصراع السياسي، وأن كثيراً من عيوبه ولدتها تدخلات السلطة في تركيب الخرائط المنسجمة مع آلياتها في العمل السياسي في سنوات القهر والتسلط، وأن الأحزاب الوطنية والتقدمية الكبرى ظلت تعاني طيلة تاريخ نضالها المستميت من الاختراقات الداخلية والخارجية، كما أن مناضليها تعرضوا لأصناف من المهانة والهوان في السجون والمنافي، ولا يعني هذا أننا نبرئ الفاعلين في المجال الحزبي من عيوب موضوعية في آلة العمل الحزبي، قدر ما نريد الاحتراز من نقد لا يراعي مختلف الشروط التي ساهمت في تراجع العمل الحزبي، والشروط التي ساهمت في عدم تطوير الديمقراطية الداخلية داخل هياكل الأحزاب ومؤسساتها المختلفة.

وإذا كانت كل هذه المعطيات تجد تفسيرها في إطار الصراع السياسي التاريخي الذي دارت رحاه في مجتمعنا في عقود ما بعد الاستقلال، فإن مأزق العمل السياسي الحزبي في مجتمعنا اليوم، يعتبر مسألة موضوعية، نطرحها هنا في إطار التفكير في كيفية تعزيز العمل السياسي الحزبي في فضائنا السياسي، للتمكن من مواجهة التحديات والأسئلة الجديدة التي تعكس مسار تجربة محددة، وتتجه لتطويرها.

تقرأ انتقادات الملك للعمل الحزبي في المغرب بصورة مباشرة باعتبارها دعوة لمواجهة تيارات سياسية معينة، تيارات الاسلام السياسي التي تستند في عملها الميداني إلى شبكة من الجمعيات الاجتماعية والخيرية، حيث تتسع درجات حضورها في تلافيف المجتمع المغربي، وذلك مقابل تقصير الأحزاب الوطنية التقليدية، والأحزاب الجديدة التي أنشئت في ظروف سياسية محددة لمواجهة الأحزاب الوطنية، وكذا تيارات اليسار المغربي الحلقية. ورغم أننا لا نقبل كلية معطيات هذا الحكم، لأنه يضخم درجة حضور تيار سياسي معين على حساب تيارات سياسية أخرى ما تزال تواصل بأشكال مختلفة حضورها وتغالب شيخوختها، إلا أننا نتصور فعلاً وجود تقصير ملحوظ في مسألة تأطير الشباب وإدماجه في قلب هياكل الأحزاب، بل ومنحه فرصة القيادة وتأطير مختلف فئات المجتمع. فهناك بشكل عام، عزوف عن العمل السياسي يصعب تفسيره بسهولة، ولعله يتطلب إنجاز مقاربات ميدانية متنوعة، بهدف فهم أسباب وعوامل تراجع عناية الشباب بالانخراط في العمل السياسي وعلاقة ذلك بالتحولات السياسية الجارية في بلادنا وفي العالم.

لم تكن انتقادات الملك للأحزاب السياسية المغربية من قبيل الانتقادات التي يمكن النظر إليها كمحاولة لمحاصرة هذه الأحزاب، أو الحد من طموحاتها، مثلما أن النقاش الذي فتح حول تجربة التناوب وخمس سنوات من حكم الملك محمد السادس لم يكن يروم التقليل من قيمة التجربة، بل إنه اتجه في رأينا للتفكير في سبل تطويرها والدفع بها في اتجاه دعم التحول الديمقراطي في بلادنا، وفي النقدين معاً يعاين المهتم بالشأن السياسي المغربي جدلية السجال الايجابي الهادف إلى ترسيخ قيم الحداثة والتحديث السياسي في بلادنا.

أما الذين انتقدوا تجربة الخمس سنوات الأولى من حكم محمد السادس، فقد ركزوا على آلية المد والجزر ومراوحة الخطى، والعودة إلى بعض الآليات المحافظة في الممارسة، وذلك دون إغفال الشعارات التي أطلقت والورش الكبرى التي فتحت في الاقتصاد والمجتمع.

وصف الملك التعددية السياسية في المغرب بالعشوائية، وانتقد المزايدات السياسية التي لا تهتم ببناء برامج واقعية في الإصلاح، وفي هذا السياق دعا إلى تركيب أقطاب سياسية متجانسة قادرة على تأطير المجتمع وتأهيل النخب، وذلك من أجل مشهد سياسي معقلن، وقادر على بلورة برامج سياسية واجتماعية واقتصادية لمواجهة تحديات الواقع المغربي في صورها المختلفة.

وضمن هذا الإطار أعلن عن مشروع قانون جديد للأحزاب المغربية سيعرض على المؤسسات التشريعية بهدف مناقشته وإقراره، ولعل أهم عناصر هذا المشروع تتمثل في منع تأسيس الأحزاب على أساس عرقي أو لغوي أو جهوي أو ديني، ذلك أن هذه الأصول تعد أمراً محايثاً لمبدأ الوحدة الوطنية، الوحدة التي تقرر بالتنوع وتنظر إليه كعامل إغناء للهوية التاريخية المفتوحة والمنفتحة. ولعل قبول هذا المشروع سيساعد في مزيد من ترسيخ الفكر السياسي الحداثي الذي يرعى مختلف أشكال الصراع والتوافق في المجال السياسي دون عناية بالدوغمائيات والأساطير والأوهام، التي تفكر بلغة الأصول والأعراق الدموية والعقائد المطلقة وأشجار النسب. إن العمل السياسي في المنبع هو محصلة إرادات وتوافقات تؤسسها المجموعات الوطنية والقومية بلغة العقل التاريخي الهادفة إلى لحم مكونات حاضرها ومصيرها المشترك.

وهناك أمر آخر حرص عليه مشروع قانون الأحزاب، يتمثل في مطالبة الأحزاب ببرامج سياسية محددة، ودعوتها إلى إعلان وسائل تمويلها، وطرق عملها، وكذا إخضاعها للمراقبة القضائية، ولعل هذه العناصر ستساهم في رفع كثير من علامات الاستفهام المرتبطة بعمل وآليات تمويل بعض التنظيمات السياسية، وهو الأمر الذي يعزز مبدأ الشفافية في العمل السياسي.

نتبين مما سبق، أن المرجعية السياسية المؤطرة للمعطيات التي أوردناها من مشروع قانون الأحزاب الجديد، ترتكز إلى مقدمات فكرية محددة، فهي تتحدث عن دولة ومجتمع، تتحدث عن قوانين ومؤسسات ومصالح، إنها تغيب مفاهيم سابقة على الدولة والمجتمع في معناهما الحديث والمعاصر. لكن تحقيق ما سبق يتطلب في الوقت نفسه، تعديلات في بنية النظام السياسي المغربي ككل، وهو الأمر الذي يعزز مواقف الداعين إلى ضرورة إنجاز إصلاح دستوري جديد يساهم في القطع مع ممارسات ومواقف متناقضة مع روح الخيارات النظرية المستوعبة في مشروع قانون الإصلاح الحزبي الجديد.

فعندما نطمح إلى تركيب مشهد سياسي معقلن ونضع الاختيار الديمقراطي كأفق للعمل، فإنه ينبغي أن لا نغفل أننا سنصبح أمام دولة مؤسسات ومجتمع منظم في أقطاب سياسية مؤهلة لتدبير شؤونه في إطار اللعبة الديمقراطية، حيث ينبغي أن تصبح حدود السلطات واضحة، وحيث يصبح بإمكان السلطتين التشريعية والتنفيذية، أن تمارسان عملهما في إطار صيرورة الصراع والتوافق التي تحكم جدلية العمل السياسي الحداثي، وهو ما يعني بلوغ الدولة والمجتمع عتبة الرشد التاريخي، وهو أمر لم تتوفر شروطه القانونية بعد في بلادنا.