إسرائيل.. بين حرب ونزاع

TT

من تحصيل الحاصل، أن قرار رئيس الحكومة الاسرائيلية، ارييل شارون، الجلاء عن قطاع غزة لا يندرج في اطار تطبيق «خريطة الطريق» ولا التجاوب، ولو جزئيا، مع قرارات الشرعية الدولية ولا في اطار اي مخطط لتسوية النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. يندرج فقط في خانة الحسابات الأمنية التي لا يخفي الجنرال شارون انها تستدعي «تنازلات أليمة».

اسرائيل، في عهد شارون، لا تطلب سلاما. تطلب أمنا فقط.

وعلى ضوء هذه الاولوية لن يكون الجلاء الاسرائيلي المتوقع عن غزة نصرا لهذا الفصيل المقاوم أو ذاك بقدر ما هو نصر للفلسطيني الصامد في أرضه والمتشبث بترابه في مواجهة آلة القتل والهدم والجرف الاسرائيلية المبرمجة.

هنا تكمن العبرة التاريخية الابرز للانتفاضة، ففي تغذيتها روح المقاومة في الداخل، وفي ربطها المقاومة باستعادة الارض السليبة، وجهت لاسرائيل والعالم أجمع رسالة واضحة مفادها ان من تبقى من الفلسطينيين في الوطن متشبثون بما تبقى من الوطن، وان سيناريو عام 1948 لن يتكرر في عهد الانتفاضة.

أما العبرة الثانية، فهي قطعا تبديد حلم الرعيل الصهيوني الاول باستعمار «ارض الميعاد» كاملة، من البحر الى النهر، بمجرد التعامل معها بالمنطق الزاعم بأنها دولة بلا شعب.. فجاءت الانتفاضة لتثبت له انه يواجه شعبا يحتضن دولة.

الانسحاب المقترح من غزة، بأبسط تفسير له، هو الحصيلة الطبيعية لصدام الأمن الإسرائيلي بالطوباوية الصهيونية مما يجعله انتكاسة سياسية لشارون وانتكاسة آيديولوجية لتيودور هرتزل.. فبين حلم هرتزل بوطن قومي يهودي على كامل التراب الفلسطيني وأمل شارون بوطن يهودي حائز الحد الادنى من أمنه القومي، فجوة عمقتها الانتفاضة بنجاح، ولا تزال تعمقها، وإن بتكلفة باهظة.

ولكن السؤال يبقى: هل الانسحاب المقترح من غزة هو بداية طي صفحة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة ـ التي انطلقت بتشجيع من شارون في عهد حكومة مناحيم بيغن وازدهرت بتواطؤ كل رؤساء اركان الجيش الاسرائيلي ومعظم قادة القطاعات العسكرية الى حد تحويل الاراضي المحتلة الى القضية «الداخلية» الاولى في اسرائيل والمستوطنين الى طبقة اجتماعية مميزة عن باقي الاسرائيليين ـ أم انها نهاية «التنازلات الأليمة» التي تحدث عنها شارون مرارا؟

إذا كانت إزالة المستوطنات اليهودية من غزة هاجس شارون ـ الذي لم يجلِ يهوديا واحدا عن مستوطنة واحدة مأهولة منذ إخراجه المستوطنين عنوة من ياميت (سيناء) عام 1982ـ فهي المحك الاول لقدرته على تفكيك مستوطنات داخل «أرض الميعاد»، إن اقتضت ذلك ضرورات أمن اسرائيل، دون التسبب في حرب اهلية سيكون هو السبب الاول والاخير فيها بتشجيعه الاستيطان وتمويله على مدى سنوات الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع.

عام 1982 أقنع بيغن وشارون الاسرائيليين بضرورة تفكيك مستعمرة ياميت بابرازهما المردود السياسي والاستراتيجي الثمين لهذا التفكيك، اي «تحييد» أقوى الدول العربية المحيطة باسرائيل (مصر).

أما اليوم، فان أقصى ما يمكن لشارون ان يعد به هو، دبلوماسيا، احتمال كسر اسرائيل لعزلتها الدولية (وهو احتمال يبقى ضئيلا ما لم يستتبعه تحرك مواز على صعيد الضفة الغربية)، وأمنيا احتمال تخفيف خسائر اسرائيل البشرية بعد تحسين الوضع اللوجستي لخطوطها العسكرية.

ولكن في بلد هو أقرب ما يكون الى برج بابل حديث يختلط فيه الاشكنازي بالسفارديمي والأصولي بالعلماني والصهيوني المتدين بالصهيوني المصلحي، بدا من تهديدات المستوطنين ولهجة الأحزاب الدينية أن التصويت على مشروع شارون لم يكن اقتراعا على قرار انسحاب عسكري بل هو فصل من فصول صراع السيطرة على الدولة بين المتدينين والعلمانيين، الامر الذي لمح اليه شارون باشارته الى ان اليمين الديني يعاني من«عقدة المسيح المنتظر»، وهو صراع قد يتحول، في حال تفجره، الى نزاع على تحديد هوية اسرائيل تتجاوز ساحاته المؤسسة الديمقراطية في البلاد.