العراق القادم.. بعيدا عن ساكني البيت الأبيض..!

TT

عندما يطالع القارئ هذا المقال، تكون نتيجة الانتخابات الأميركية، وهي منافسة حادة قد تقررت، الا إذا حدث ما لم يكن في الحسبان، واحتدمت المنافسة لجهة التعادل أو الفوارق الضئيلة، أو تعليق الأمر لبضعة أيام كما في سيناريو انتخابات عام 2000، ومع ذلك ففي كل ذلك، صدقوني، نوع من الفرج، ففي اطار ابتعاد الانتخابات، وتحقق اجواء من الهدوء، يمكننا مرة اخرى، أن نناقش القضايا من دون تحزب.

فقضية العراق بداية، هي احدى القضايا ذات الأهمية العاجلة، والتي هيمنت على حملة الانتخابات الأميركية. فخلال ما يزيد على عام استخدمت قضية العراق كعصا لضرب الرئيس جورج دبليو بوش. فالناس الذين يكرهون بوش لأسباب مختلفة، بعضها مشروع والآخر غير مشروع، غير مهتمين بالعراق بذاته ولكنهم مهتمون باستخدامه كوتد يدقونه في خيمة كراهيتهم له، ولا بد ان الدكتاتور العراقي المخلوع يتساءل في سجنه عن التحالف الغريب بينه وبين هؤلاء، وتقديري أن قلة من الأعضاء في ذلك التحالف أحبوا صدام حسين حقا، أو كانوا متأسفين على رحيله، فيما كان هدفهم الحقيقي من تصوير تحرير العراق ككارثة، تدمير فرص بوش في إعادة انتخابه. ومن هنا، ومع انتهاء الانتخابات الان، فقد آن الأوان للعودة الى العراق الحقيقي، والتعامل معه حسب استحقاقاته، وليس لتوجيه ضربات لبوش. وبعيدا عن أن يكون كارثة، فالمؤكد ان تحرير العراق سيدخل كنجاح غير مسبوق.

وإليكم السبب.

فقد ألحق جيش صغير نسبيا من القوات الأميركية وقوات التحالف الهزيمة بالعراق بأسره، وهو بلد بحجم ولاية تكساس، خلال ثلاثة اسابيع فقط، وبأقل الخسائر. ولم تشهد بلاد ما بين النهرين، وهي البلاد التي شهدت الكثير من الفاتحين خلال الثلاثة آلاف عام الماضية، أي انتصار سريع كهذا. فقد احتاجت قبرص الى ستة اشهر للاستيلاء عليها. وامتثلت للاسكندر خلال أربعة اشهر. وفقد كراسوس، الجنرال الروماني العظيم، جيشه هناك، والقي القبض عليه وقتل. كما قتل الامبراطور الروماني جوليان هناك، تاركا فيالقه للتفاوض على الانسحاب. والقي القبض على الامبراطور فليريانوس مع فيلقه بكامله وعوملوا كعبيد. وفي العصر الحديث احتاج البريطانيون أربع سنوات، من أجل الاستيلاء على البلد وتحقيق الاستقرار فيه.

ويجب ألا يكون صعبا الاعتراف بأن التخلص من صدام حسين كان عملا نبيلا. فقد كان نظام صدام الأكثر شرا مما شهده العالم العربي خلال حقبة مديدة، والنظام الوحيد منذ الحرب العالمية الثانية الذي استخدم الأسلحة الكيمياوية بما في ذلك ضد أهل بلده. كما ان العراق في ظل حكم صدام كان البلد الوحيد في حرب من الناحية الرسمية مع الأمم المتحدة بأسرها، والبلد الوحيد الذي انتهك قرارات مجلس الأمن لفترة تقرب من 13 عاما. وباختصار، فإن صدام حسين مجرم كان من الواجب إطاحته ومحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية. اما مسألة ان جورج بوش هو الذي فعل ذلك، بصرف النظر عن الحب او الكراهية تجاهه، يجب الا تجعلنا ننسى الحقيقة.

ما حدث في العراق ليس بأية حال فرضا للديمقراطية بالقوة، وإنما إطاحة بالذين استخدموا القوة لمنع ظهور الديمقراطية. هذا ما حدث ايضا في ألمانيا خلال فترة ما بعد الحرب، وكذلك في ايطاليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ودول اخرى.

ومن المهم ان نتذكر ان جون كيري يتفق مع كل ما ورد أعلاه عندما صوت للحرب وأيدها، حتى تغيرت نتائج استطلاعات الرأي قبل بضعة اشهر من انتخابات الرئاسة.

ولا يعتبر جلب الديمقراطية الى العراق او أي مكان آخر، عملا خيريا من جانب الولايات المتحدة، ففي ذلك وبواقع الأمر عامل حيوي في التأكيد على الأمن القومي لأميركا، فالديمقراطيات لا تهاجم بعضها بعضا، كما ان الارهاب العالمي ينمو ويفرخ في المجتمعات غير الديمقراطية.

إذن، ماذا عن وضع ما بعد الحرب في العراق؟

الصور العامة التي تعكس الوضع العراقي، خصوصا تلك التي يتلقاها المشاهدون من التلفزيون، لا تعدو ان تكون صورة لبلد في حالة اضطراب من دون مستقبل يبعث على الاطمئنان. هذه الصورة مفيدة لهزيمة بوش. ولكن بعد انتهاء انتخابات الرئاسة، حان الوقت لعرض صورة أكثر اتزانا عن العراق، برؤيته وقد بدأ يسلك طريقه نحو المستقبل.

العراق ليس الدولة الوحيدة في العالم الاسلامي التي تواجه تمردا وإرهابا. فقد مرت 22 دولة مسلمة من ماليزيا الى الجزائر وتركيا ومصر خلال العقود الثلاثة السابقة بتجارب مماثلة. اذ استغرق الأمر ماليزيا 14 عاما لسحق المتمردين الارهابيين، وكلفها ذلك خسائر في الارواح وصلت إلى 25000 شخص. اما مصر فقد استغرقت عقدين من الزمن لهزيمة الارهابيين بعد خسائر في الأرواح بلغت 20000 خلال هذه الفترة، من بينهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وعدد من المسؤولين الذين اغتالهم الارهابيون. تجربة تركيا مع الارهاب كلفتها 30000 قتيل على مدى ما يزيد على 15 عاما، فيما استمرت حرب الجزائر على الارهاب 12 عاما قتل خلالها 150000 شخص.

وما تزال اندونيسيا وباكستان واوزبكستان تخوض حروبا ضد الارهاب، لم يسلط عليها الضوء لأنه لا يمكن استخدامها في غير مصلحة بوش او في المشاعر المعادية للولايات المتحدة.

كذلك يمكننا ذكر تجارب عنف أخرى في اليمن ولبنان وأفغانستان وإيران، ناهيك عن السودان، التي ما زالت موضع اهتمام العناوين البارزة، كي نفهم أن أكثر المجتمعات المسلمة تعيش العنف وهي تحت وطأته.

ومن خلال الاحتكام إلى معايير بلدان مسلمة أخرى، فإن مشكلة التمرد الإرهابي في العراق، هي أقل من المعدل العام. فإرهابيو التمرد العراقي لم يتمكنوا من إفساد أي من عناصر الخطة الهادفة إلى تحقيق التقدم صوب الديمقراطية. فهذا الأسبوع تم تعليق السجل الانتخابي على الجدران كي تتم وضع التحسينات الأخيرة عليه خلال الأسابيع القليلة القادمة. وخلال فترة تقل عن 12 أسبوعا، سيكون العراقيون قادرين على التصويت في أول انتخابات حرة لهم، مثلما فعلت أفغانستان في الشهر الماضي.

وإذا لم تتخل الولايات المتحدة عن مسؤولياتها في العراق، فسيصبح على الطريق إلى نظام سياسي تعددي خلال عامين إلى ثلاثة أعوام.

هنا اختبار بسيط للتحقق من الأوضاع في العراق: لم تتحقق نبوءة نعوم تشومسكي القائلة إنه في حالة إسقاط صدام حسين عن الحكم فإن ستة ملايين عراقي سيموتون بسبب الجوع والأمراض، بل ثبت بطلانها تماما. هناك أغذية في العراق أكثر من أي وقت خلال الثلاثة عقود الأخيرة، فيما بدأت كل مستشفيات العراق تقريبا العمل ثانية بعد ثلاثة عشر عاما.

كذلك، ولأول مرة خلال أربعة عقود، يكف العراقيون على أن يصبحوا لاجئين بأعداد كبيرة. بل على العكس هناك أكثر من 1.8 مليون لاجئ رجعوا إلى وطنهم منذ تحريره بعد أن قضوا عقودا من العيش في المنفى.

كذلك فإن تلك التوقعات بحدوث حرب أهلية بين الشيعة والسنة قد ثبت زيفها مع ما نشاهده اليوم، وكيف تستعد الأحزاب السياسية عبر كل المناطق باختلاف أديانها ومذاهبها واثنياتها، لإنزال قائمة وحدة وطنية للانتخابات القادمة.

حسب دراسة شاملة قام بها «صندوق النقد الدولي»، يتضح أن معدل زيادة النمو في العراق مثير للدهشة، إذ بلغ 56% خلال الاثني عشر شهرا السابقة. كذلك تتوقع الدراسة أن يصبح العراق «محرك النمو» الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها. وليس مستغربا أن يتجاهل الإعلام المنتقد لبوش دراسة «صندوق النقد الدولي»، لأنها تعطي العراق علامة عالية. مع ذلك هناك دعم آخر لتقييم هذه المنظمة الدولية يتمثل بواقع العملة العراقية الجديدة، الدينار. إذ ارتفعت قيمته مقابل الدولار الأميركي وسلة العملات الخاصة بالبلدان النفطية في الشرق الأوسط ، فيما بدأ الكثير من غير العراقيين في زيارة العتبات والمدن الدينية داخل العراق. فخلال الأشهر الاثني عشر الأخيرة، استقبلت النجف وكربلاء أكثر من 8 ملايين زائر، وهذا يشمل عددا كبيرا من الهند وباكستان والخليج وإيران.

وعلى الرغم من الأخطاء التي وقعت فيها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة والقيادة العراقية الجديدة، فإن تحرير العراق يظل خطوة ناجحة. فالعراق لديه فرصة قوية أن يصبح نموذجا لبلدان عربية ومسلمة أخرى. هناك شرط واحد يجب توفره كي تنجح هذه العملية، ويتمثل في أن على الولايات المتحدة ألا تنسحب الآن قبل تحقق هذا الهدف.

والآن، ومع انتهاء الانتخابات الأميركية، فإن الوقت قد يكون مناسبا للطرفين الممثلين لوجهتي النظر المتعارضتين في الولايات المتحدة كي يبدآ باعتبار الملف العراقي نجاحا، والبدء بالمساعدة على تعزيز هذا النجاح. ويكون هنا إرسال وفد مشترك، يضم الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى العراق، لكتابة تقرير غير منحاز لهذا الحزب أو ذاك، حول الوضع هناك، وطرح توصيات تمثل الحزبين للتوثق من أن التحول صوب الديمقراطية في العراق سيكون سريعا، سيكون احد الطرق التي يمكن اتباعها لتحقيق هذا الهدف، وأولئك الذين يريدون أن يفشل العراق لأنهم يريدون حقا فشل بوش، عليهم أن يدركوا الآن أن ذلك الفشل في العراق ليس في صالح أي طرف.