الحكم محبة

TT

عندما توفي ديغول نعاه خلفه جورج بومبيدو الى الفرنسيين قائلاً: «لقد تيتمت فرنسا». قدر بعض الرجال انهم اباء الامم. ليس لأنهم يجيئون في مرحلة تاريخية معينة، بل لأن في ذواتهم نسيجاً لصناعة التاريخ، في اي مرحلة اطلوا.

في غياب زايد بن سلطان تيتمت الوداعة. وشعر كل عربي انه فقد رجلاً يحبه. واثبتت مظاهر العزاء العربي، الرسمي والشعبي، ان اعظم ما يمكن لحاكم ان يتمتع به هو محبة الناس. حتى رسامو الكاريكاتور العرب تركوا ريشة السخرية وشاركوا في نعيه. واحدى الشبكات التي تعيش على بث الحقد والفرقة وزعيق الخراب، صمتت حداداً وشاركت العرب في حزنهم على رجل طيب وبدوي شجاع.

كان غياب زايد درساً للحكام الذين يملكون القوة ولا يتمتعون بمحبة المواطن. غاب من دون ان يشكو عربي او اماراتي واحد من العدالة في ظل زايد. وغاب من دون ان يخطر لمغامر او مجنون او حتى ثقيل محترف، اعلان المعارضة له. ولم يكن زايد نفسه يدرك بالتأكيد، مدى مكانته لدى العرب، لأن تواضعه كان يمنعه عن ذلك.

الناس ليست في حاجة الى رجل يحكمها بل الى قائد تحبه. الى حاكم لا يخرج من صفوفها مهما علا. ولا ينصرف عنها وعن همومها مهما انشغل. الناس تريد اولاً بين متساوين، لا يعزله الحرس، ولا يحوله المرتزقة من المستشارين الى مجموعة من صفات التفوق المضحك، ولا يقيم كتبة اليافطات سوراً قطنياً كاذباً بينه وبين الحقيقة. وبدل ان يكسب القلوب والافئدة، لا يأخذ سوى ضيق الرعية ورياء المطبّلين.

كان زايد صورة فريدة في الحكم العربي. رجل مصنوع من هموم الناس وطيبة الحاكم ووداعة القائد الحقيقي الذي يفتح بابه لكل الناس، ولا يملأ عليها وعلى حياتها تماثيله وملصقاته في كل المدن والبراري. كانت صورة زايد في قلوب شعبه. ولم يكن احد منا يعرف، لولا غيابه، ان له مثل هذه الصورة في قلوب العرب ايضاً. والسبب ان زايد لم يطل على العرب الا بطيبته ومحبته. اطل عليهم وسيطاً وراعياً وصديقاً. ولم يفرض على احد «الهامه» المتخطي ذكاء البشر، ولا فرض المؤلفات والروايات التي لم يكتب قبلها ولن يكتب بعدها. ولم يقل انه قائد لا علاقة له بالحكم بل ظل ينظر في اصغر قضايا الناس. وظل يتساءل لماذا لا يقبل الناس على الزواج، ويغرقهم بالهدايا ويساعدهم على المهور. وظل يواسي البسطاء لا الفقراء، لانه لم يسمح بأن يبقى مواطناً واحداً في الفقر. وظل رفاقه هم رفاقه من ايام البادية والشظف فلم يرم احداً منهم في السجن ولا اخر في المنفى ولا ثالثا بالرصاص ولا رابعا بالتهم الكاذبة والملفقة.

معالم الحداد العربي على مؤسس ابو ظبي الحديثة ومؤسس دولة الامارات، اظهرت ان كل العالم العربي شعر بشيء من اليتم في غياب الشيخ زايد. واعطى الحكام العرب الامثولة التي لن يقدروا على تعلمها: لا تريد الناس منكم سوى ان تحبوها وتحبكم. الناس لا تريد «ابطالاً» لا يتركون خلفهم سوى الهدر والخراب. تريد حكماء يتركون للاجيال الكثيرة المقبلة الضمانة الاقتصادية التي تركها زايد. والارث الطيب الذي تركه.