بين كولمبس وبوش .. والليل الحالك

TT

في وقت متقارب من خريف 2004 م جرت الانتخابات في بلد عربي وفي أمريكا (كولمبس)، فأما الزعيم العربي فقد التهم وحزبه كل الأصوات والمقاعد إلا قليلا بدون شعور بالتخمة، وركب على ظهور العباد . تنافس في أمريكا بوش وكيري كأنهما فرسا رهان. فهذا هو الفرق بين العربان والأمريكان.

وحينما فاز (بوش) كان أول من هنأه خصمه (كيري) مما يذكر بتقليد لا نعرفه إلا عندما يتمكن فلاح صربي من الجبل الأسود تأليف الشعر باللغة الصينية.

إن هذا التقليد ، وآخر من شكله أزواج ، فوق عتبة أحلامنا في الوقت الراهن. ونحن ما زلنا نعيش عصر (بيعة) كافور الإخشيدي قبل فتوحات كولمبس بمرشح واحد أو أكثر ، وبديكور سياسي على مقاس رجال الأمن. وعندما يشرع الأمريكيون فترة رئاسية لا تزيد عن أربع سنين، قد تمدد إلى فترتين، هذا إن كان الرئيس محظوظاً ، مما يتم في فترة رئاسية واحدة في الانتخابات العربية، فهو أمر لم تصل إليه الحياة السياسية لدينا.

نحن لا نفهم التعددية ولا نعرف الصحافة الحرة ولا قيمة الأمانة في الانتخابات الرئاسية. قد تشبه الانتخابات في بلادنا الانتخابات للبرلمان الأوربي، بفارق يذكر ببيضة يخرج منها ديك يصيح على السياج، وبيضة مسلوقة مات فيها كل جنين.

وفي يوم أجرت صحفية أمريكية مقابلة مع زعيم عربي ، فسألته عن التعددية الحزبية في بلده قال: عندكم حزبان ونحن عندنا تسعة أحزاب فمن هو أشد ديموقراطيةً ؟. نظرت إليه الصحفية الأمريكية بابتسامة وهي تتعجب ! ولكن هذا يمثل بقصة الضفدع ومياه البحر التي لم تبلل وجه الضفدع قط.

وحتى الآن فكلامنا لا يزيد عن مريض من رجال الطوارق في الصحراء، يعاني من ارتفاع في الضغط الشرياني ، وأصيب بالشلل والغيبوبة، وقد اجتمع حوله أهل قبيلته جميعا، يعرفون أنه مريض ولكن لا يعرفون طبيعة المرض والتشخيص، فضلاً عن العلاج وأصول الطب الحديث كله. ونحن نتأمل ما يحدث في أمريكا فاغري الفاه ؟ ويصوت 84 % من الشعب العربي في قناة محترمة أنهم ضد الديموقراطية الأمريكية.

نحن نعيش كما يقول (مالك بن نبي) على صورة مقلوبة ، فقدمانا في عام 1425 هجري ولكن رأسنا متوقف في عام 1425 ميلادي، يوم كان الأوربيون يعالجون السعال الديكي بلبن الحمير. وكان البابا الكسندر السادس يرى أن سبب الإفرنجي اعتلال مزاج المريخ، وكان الطاعون يعالج بخروج الناس إلى البرية وممارسة جلد الذات والتضحية باليهود.

نحن لم ندخل العصر إلا من باب (شراء) أشياء الحضارة. نحن نبني قبابا عالية صورية. ونبدل الدساتير في دقائق حتى بدون مراعاة للشكليات بدون خجل. ونمارس الانتخابات مثل توزيع الأيقونات والحرز عند الفرق الصوفية. ونعيش حياة الزور والتزوير. ولا يأتي رئيس إلا بانقلاب أو تزوير. ونبايع الرئيس إلى الأبد مثل شيخ طريقة صوفية.

ولكن لماذا تتم هذه المسرحيات الهزلية عندنا؟ وأي نكبة عارمة أصابتنا؟ ومن هو خلف هذا الانقلاب؟

لفهم هذا يجب الرجوع إلى الخلف يوم أعلن ابن خلدون موت الحضارة الإسلامية، لنكتشف الانقلاب الذي حققه رجل قلب التاريخ قبل خمسة قرون، ولم يعرف شيئا عن الفتح العظيم الذي فعله، وبقي حتى موته لم يعرف أنه أدار عجلة التاريخ في اتجاه جديد. وما يجري في أمريكا اليوم هو عهد ما بعد كولمبس، أما نحن فنعيش فترة ما قبل كولمبس، ليلا حالكاً حتى يحصل انقلاب نوعي في الثقافة. ويبدأ الجامع والجامعة في إفراز ثقافة صحية. وحسب (شبنجلر) فإن حضارة الإنكا كانت تفوق حضارة الملك شارل الفرنسي بآدابها ونظامها وعدد سكانها وطرقها الزراعية على حافة الأنديز، ومن قضى عليها كانت عصابة من اللصوص الأوغاد المزودين بفيروس الجدري والمدافع والخيول والكلاب المدربة ، فقتلت تلك الحضارة كما يقتلع أي طفل شرس زهرة عباد الشمس.

إن النكبة العارمة التي مسحت حضارات العالم القديم وأدت إلى تفريغ القارتين شبه الكامل، يكشف عنها النقاب اليوم، ويقوم أهل فنزويلا بتحطيم آثار كولمبس في ذكرى الغارة، ويكتب أستاذ السوربون (تزفتيان تودوروف) فصولاً مروعة على لسان القسيس (لاس كاساس) في كتابه (مسألة الآخر) أن الله لن يغفر للاسبان ما فعلوه بالسكان.

ويشير نعوم (تشومسكي) ،في آخر كتاب له، عن الغارة أنها مستمرة (501 the Conquest continues Year) وأن اجتياح العالم القديم «قاد إلى أعظم كارثتين ديموغرافيتين في تاريخ الإنسان، فمن جهة تم تدمير الهنود في نصف الكرة الغربي، مقابل تفريغ أفريقيا من السكان وتحويلهم إلى عبيد لغرض الفتح في أمريكا».

وتلقي قناة (الديسكفري) الضوء على حقيقة (كريستوبال كولون) الذي يتنازعه الطليان والاسبان ولم تحدد هويته بعد، فقام العلماء فاستنطقوا عظامه لمعرفة من كان هذا الرجل؟ هل كان من أهل كاتالونيا في اسبانيا؟ أو ابن حائك فقير من جنوى في إيطاليا؟ أم كان يهوديا أخفى عقيدته في الظروف الجهنمية التي كان تحرق فيها محاكم التفتيش الناس على الشبهة ؟ لماذا كان الرجل حريصا على إخفاء أصوله سواء في كتاباته أو حتى عن أقرب الناس إليه ابنه فيرناندو؟ ويجيب علم النفس عن هذا أنها واحد من ثلاث: خوفا من شيء، أو خجلاً من شيء، أو حرصا على إخفاء شيء لاعتبارات سياسية.

ومما يحدث هذه الأيام أن قامت لجنة علمية بالدخول إلى كنيسة إشبيلية فاستخرجت بقايا عظامه وقامت بدراستها في كل من غرناطة ودالاس في أمريكا ، من أجل تحديد الحامض النووي ومقارنته مع عظام أخيه التي نبشت أيضا، ولم تكن النتائج باليقينية بسبب قلة العظام وتخرب الحامض النووي، بالإضافة إلى هذا قام كل من خبراء اللغة والخطوط بدراسة مخلفات كتابات كولمبس للتأكد من المنطقة التي نشأ منها؟ والطبقة التي ولد فيها؟

والمهم، أيا كان الرجل، فقد قلب محاور التاريخ من حيث لا يعلم ، وبقي حتى آخر أيامه وهو يظن أنه وصل إلى الهند من طريق الغرب. والسؤال المثير هو كيف لمعت هذه الفكرة عند الرجل بأن يسلك الطريق الغربي عبر بحر الظلمات، أشبه برحلة إلى المجهول إلى المريخ في أيامنا؟ وتلقي مجلة در شبيجل الألمانية الضوء على خلفية هذا السؤال أنه يعود إلى سرقة جهود مكتشف آخر وصل إلى أمريكا وجثتين من شعب التاينو طوحت بها الأمواج إلى جزر الآزور.

مع هذا يبقى الوضع التاريخي المفسر الأكبر، فبعد معركة (ملاذكرد) تقدم السلاجقة الأتراك خطوة أبعد في الإطباق على العاصمة البيزنطية التي كانت في سكرات الموت بعد أن عمرت ألف سنة. وفي عام 1453م انتهت أسطورة القسطنطينية وبدأ النجم التركي في الصعود، وبذلك قطع طريق التجارة إلى الشرق على أوربا، فاستندت بظهرها إلى المحيط المجهول ومنه جاء الفتح المبين.

ويرى (توينبي) أن استجابة الغرب للتحدي التركي الإسلامي كان ثلاثي المحاور: (روسياً) امتد إلى وسط آسيا فدمر الممالك التترية في القرم وقازان. و(برتغالياً) مشى بحذاء سواحل أفريقيا الغربية مرورا برأس الرجاء الصالح وانتهاء باليابان. ولكن الضربة المخيفة التي وجهها الغرب كانت حملة كولمبس وكانت رمية من غير رامٍ. فوضع الغرب يده على قارات جديدة أكبر من مساحة القمر، وملك آلاف الجزر الغنية، ومضائق البحار، وبنى السفن القلاع ما يشبه المراكب الفضائية الحالية، ولم تعد المياه تفصل الناس. ومن ملك البحار ملك التجارة الدولية ومعها الثروة العالمية، وفي خزائن الغرب حاليا ثمانية قروش ونصف من كل تسعة قروش في العالم. وتملك زوجة (كيري) البرتغالية نصف مليار دولار ورثتها من زوجها بياع الكشتب، كما يملك كيري قريب من ذلك. فهذه هي لعبة الانتخابات الأمريكية.

ومنذ خمسة قرون أعلن ابن خلدون دخول العالم الإسلامي ليل التخلف، ومنذ غارة كولمبس كان الغرب هو الذي يصنع العالم والتاريخ، ولأننا لم نشارك في بناء العصر الجديد فهو لنا لغز مثل مغارة (علي بابا) ولا نملك كلمة السر.

هكذا فعل كولمبس فرسم مصير أربع قارات: فأما أوربا فقد حملها إلى المستقبل بعربة درجة أولى، وأما أفريقيا فتحولت إلى العبودية، وأما العرب فحبسوا في قمقم المتوسط بأشد من جني المصباح، وكتب مصير الشرق في الأذلين في غابة يحتشد فيه الفقراء والطغاة وتتشابك فيها الأكواع والأسمال. وأما شعوب حضارات ما سميت بالأمريكتين فقد كتب عليها الفناء والوباء والشقاء. وحسب (تودوروف) فقد قضي على ثمانين مليون نسمة ما هو أكثر من عدد سكان أوربا. ويكشف الآركيولوجيون هذه الأيام في حوض (الميسسبي) عن بقايا مجازر مروعة من فناء 98% من السكان; فمن اصل ثمانين قرية ومدينة عامرة بالسكان غزاها الفاتح الإسباني (هيرناندو دي سوتو) لم يبق سوى خمس قرى، ومع فناء السكان لم يبق ثقافة وحضارة.

أما مصير كولمبس فقد مات فقيرا في بلدة (الوليد) وهو جازم أنه وصل الهند واليابان. ثم حملت عظامه إلى جزيرة تاهيتي جزيرة اسبانيولا التي كانت أول كشفه ثم أعيدت إلى إسبانيا بعد 350 سنة. ثم نبشت عام 2004م للبحث العلمي.

[email protected]